الرئسيةرأي/ كرونيك

نصف قرن من الزمان قمين بدفعنا أن نعمل على استكشاف تجربته..يقطين يكتب..غسان كنفاني: 50 عاما على رحيله

بقلم الكاتب والناقد سعيد يقطين

كان من بين ما طُرح في المؤتمر الذي نظمته وزارة الثقافة الفلسطينية والأردنية في عمّان (الأردن) في الذكرى الخمسين لاستشهاد غسان كنفاني خلال الأيام (14 ـ 16 فبراير 2023) الذي شارك فيه باحثون من فلسطين والوطن العربي، السؤال التالي: ماذا بقي من كنفاني؟ ولماذا نعود إليه الآن؟ لا شك في أن هذا السؤال يفرض نفسه كلما تباعدت المسافة الزمنية بين غياب كاتب والزمن الذي نعيش فيه، ولاسيما ما إذا كانت لذاك الكاتب خصوصية وتميز في مجال كتابته.

إذا تجاوزنا المناسبة وهي مهمة حين تتصل بكاتب من طراز كنفاني، نؤكد أن إعادة النظر في إنتاجاته، وقد تقادم عليها العهد ضرورة تمليها التحولات المعرفية والأدبية، التي يمكن أن تجعلنا قادرين على قراءته قراءة جديدة، تختلف عما اشتغلنا به في حياته، أو بعيد رحيله.

إن نصف قرن من الزمان قمين بدفعنا إلى أن نعمل على استكشاف تجربة كنفاني بصورة مختلفة جذريا عن الطريقة التي مارسناها في قراءتها. وما نقترحه بخصوص تجربة كنفاني ينسحب على أي كاتب تفصلنا عن رحيله مسافة زمنية، سواء كانت طويلة (القدماء) أو قصيرة (المحدثون).

لا بد في رأيي من تجاوز نوعين من القراءة نمارسهما بشكل تقليدي، وكأن الأمور واقفة عند حد لا تتجاوزه في تصوراتنا القرائية والنقدية. أما النوع الأول فيكمن في ربطنا بين السارد (كنفاني) وشخصياته الروائية، أو الراوي الذي اعتمده في إنتاجاته السردية. لقد أنتج كنفاني مختلف أعماله قبل بروز الدراسات السردية العربية الجديدة، التي غيرت الكثير من تصوراتنا عن السرد وتحليله. لقد كان التعامل معه وغيره من الكتاب في بداية السبعينيات، متصلا بما تراكم في نقدنا الروائي الذي كان ينهل من القراءة الواقعية المبنية على الانعكاس، ومطابقة النص الروائي بالواقع، ولم يكن بالإمكان التمييز بين السارد والراوي، فكانت مضاهاة الكاتب بالراوي، أو بعض شخصياته من الأمور التي كان يتكفلها النقد الروائي العربي. وفي اتصال مع هذا النوع من القراءة لا بد في رأيي، من تجاوز القراءة التأويلية المبنية على ربط نصوصه بسياقاتها المباشرة في الستينيات والسبعينيات. هذا الربط يقيد النص بالزمن الذي ظهر فيه، ولا يُمكِّننا من ربطه بالسياق النصي السردي الذي أنتج في إطاره.

أما النوع الثاني من القراءة التي علينا تجنبها ونحن نرمي إلى استكشافه مجددا، فيكمن في تجاوز القراءة التجزيئية، التي تتعامل مع تجربته باعتبارها نصوصا يختلف بعضها عن بعض، أو لكل منها خصوصية تتصل بالشروط التي كتبت فيها، كأن نعتبر بعض نصوصه، واقعية، وأخرى رمزية، وثالثة يجتمع فيها الواقعي بالرمزي، وما شابه ذلك.

نعني بما سميناه السياق النصي الروائي ما ينخرط فيه الكاتب بوعي أو بغير وعي، أو بقصد أو عفوا، بما أنتج في زمانه من نصوص عربية أو أجنبية اطلع عليها، متأثرا فيها، أو ساعيا إلى الاختلاف عنها. إن أبا الخيزران مثلا في «رجال في الشمس» ارتبط فعلا بسياق تاريخي محدد، لكن تقييده به لا يجعلنا نرى في النص تعبيرا عن مختلف آباء الخيزران الذين يظهرون في كل زمان ومكان.

كتابات كنفاني جاءت في مرحلة مفصلية من تاريخ الكتابة السردية العربية عموما، إنها مرحلة الانتقال من الكتابة الواقعية إلى مرحلة العمل على تجاوزها مع ما سيعرف بالرواية الجديدة، لذلك نجد كنفاني مختلفا عن الكثيرين من كتاب زمانه، وهو يكتب رواية جديدة بطريقته الخاصة التي تجعل نصوصه متطورة، سواء على مستوى اختيار القصة، أي المادة الحكائية، وطريقة تخطيبها، من خلال خطاب روائي خاص. وما اختياره «الرواية القصيرة» نوعا سرديا للكتابة المبنية على اقتصاد سردي يعتمد الإيجاز بمعناه البلاغي، الذي يؤدي إلى استحالة حذف أي كلمة من أي نصوصه، سوى تعبير عن رؤية فنية ودلالية خاصة.

أما النوع الثاني من القراءة التي علينا تجنبها ونحن نرمي إلى استكشافه مجددا، فيكمن في تجاوز القراءة التجزيئية، التي تتعامل مع تجربته باعتبارها نصوصا يختلف بعضها عن بعض، أو لكل منها خصوصية تتصل بالشروط التي كتبت فيها، كأن نعتبر بعض نصوصه، واقعية، وأخرى رمزية، وثالثة يجتمع فيها الواقعي بالرمزي، وما شابه ذلك.

إن توقف الكاتب عن مزاولة الكتابة بسبب الوفاة مثلا يدفعنا إلى إعادة قراءة نصوصه المختلفة، وقد صارت فعلا «أعمالا كاملة»، باعتبارها نصا واحدا، بحيث تتضافر كل نصوصه المختلفة لتتجسد بالنسبة إلينا بنية نصية متكاملة ننظر في علاقات بعضها ببعض، لتشكيل الرؤية السردية الشاملة للكاتب منذ نشأتها إلى حين انتهائها، مرورا بمراحل تطورها. هذه القراءة الكلية تمكننا فعلا من قراءة جديدة لنصوصه، وتسمح لنا بتحليل التجربة السردية في مختلف مستوياتها، من حيث ائتلاف مكوناتها، أو اختلافها.

ولضرب مثال لهذا التواشج بين نصوص الكاتب وترابطها ببعضها، يمكن اعتبار «رجال في الشمس» وجها آخر للرحلة التي فرضت على شخصيات النصوص في تجربة كنفاني. فإذا كان سعيد س. عائدا إلى حيفا، فإن شخصيات رجال في الشمس ذاهبون إلى الكويت. وبين العودة إلى الداخل، والذهاب إلى الخارج نجد أنفسنا أما الطريق المسدود نفسه، فلا يتحقق أي من الفعلين. ويمكننا تبين هذا الترابط على مستوى القصة والخطاب في نصوص كنفاني التي كان يؤلفها بوعي فني ودلالي متميز. تستدعي تجربة كنفاني قراءة استكشافية جديدة نتعامل معها بتصور سردي مختلف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى