رأي/ كرونيك

من الاستعمار العملي إلى الفكري تحولات قيمية ولغوية وأخلاقية في مغرب ما بعد الاستقلال2/2

لقد تطرقنا في مقالنا السابق إلى الحديث المختصر حول الاستعمار الفكري في جانبه اللغوي والأخلاقي ، وما كان بإمكاني أن أقارب هذا الموضوع الفضفاض في بضعة أسطر ألامس فيها جميع جوانبه أو أن أسهب في تفاصيله ، ولست أزعم لنفسي القدرة على الوفاء به حاليا ، على وجه الحقيق ، ولا أريد من مقالي هذا الرصد الشافي والكافي لتداعيات هذا التحول في شتى مجالاته ومن جميع نواحيه ، بل ما أطمح إليه الآن هو الدعوة إلى التفكير في مسألة هذا الانتقال ، (الانتقال من الاستعمار العملي إلى الاستعمار الفكري ) ، وما تمخض عنه من آثار سلبية شل حركة التقدم والتطور بالمجتمع المغربي ، وعطل دور الثقافة المغربية وأهميتها البالغة في الحفاظ على وحدة المجتمع وتماسكه واستقراره وتوازنه واستمراريته ، وكبل دور الفاعلين الاجتماعيين والناشطين السياسيين والحقوقيين داخل المجتمع ، وقيد الفكر المغربي بأغلال غربية وصلت أصداؤها لتضرب أطناب المجتمع .
إن التنظير في هذا الموضوع الحساس حسب رأينا هو ضرب من العبث واللغو ، وأعترف بها من تلقاء نفسي ، وإنما ما أشرت إليه في المقال السالف الذكر ، هو أن هذا الموضوع يحتاج إلى نقاش علمي هادئ يدخل فيه السياسي والاقتصادي والسوسيولوجي وأطراف أخرى ، محاولين بذلك وضع الموضوع على طاولة المساءلة وتحت إشارة دراسات أمبريقية ميدانية لا خيالية توهمية قصد إعادة النظر في جميع حيثيات هذا الموضوع والنتائج المترتبة عنه .
وتكاد تعد الدراسات في هذا الشأن المرتبطة – بالثقافة المغربية – أو الثقافات الدخيلة عليها ، أشبه بحكاية – أنشدت بدايتها وأتلفت نهايتها – كسفينة معتوهة في أعمق البحار ضلت طريقها إلى البر ، فلا تجد إلا فتاتا ممن حاولوا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة التعريف بهذه الثقافة المنسية ونفض الغبار عليها ، في المقابل ، قدم المستعمر سيلا من الكتابات الصريحة والمباشرة التي عبر عنها الكولونياليون على سبيل المثال لا الحصر كتابات * جان لوكوز * وغيره ممن ينادون بالتشبت بالثقافة الغربية عموما والفرنسية خصوصا وداعون إلى التمسك بالحداثة وما بعدها والتخلي عن التراث المحلي فالوطني .
لقد تصدى لهذه الكتابات المشحونة بالمرجعيات الإيديولوجية والغايات الإمبريالية التي كانت تتغيى الإجهاز على ثقافتنا الأم ، الأستاذ *بوسلهام الكط * الذي قدم قراءة مستفيضة في كتابه * التراث المغربي برؤية النحن والآخر .؟ * إذ وجه نقدا لاذعا لمنتقدي التقليد ، دعاة الحداثة ، وما بعد الحداثة ، واعتبر * جان لوكوز * ” مروجا للكولونيالية الأوربية على العموم والفرنسية على الخصوص (…) فقد عمل على إغفال أو تناسي كل ما أنتجته الحضارات والثقافات الإنسانية ، ومن ضمنها الحضارة العربية الإسلامية … ” ص 118 ومتما حديثه حول أهمية التراث في بناء مجد الحضارة وإبراز مكانتها وكينونتها في قوله : ” وفي سياق هذا التحول التاريخي ، يمكن القول أن التراث أصبح موضوعا أو ميدانا مهما وأساسيا (…) فالتراث الإنساني يرتبط بالهوية وبالواقع الموضوعي المعاش والمعيش ، ومن هنا يأتي التراث كمنعطف إنساني وتاريخي ومفصلي في تاريخ الفكر الإنساني الخاص والعام … المحلي والعالمي … ” ص 119.
وبالتالي نجد في هذه السطور دعوة من الأستاذ لرد الاعتبار إلى – الثقافة المغربية – وتراثها الذي ما فتئ كان مبراسها المضيء ، مختتما قوله بمناشدة صريحة وبعبارة تقريرية قائلا : ” إن الشباب العربي لا يمكن في رأينا أن يقوم بدوره التاريخي الثوري والتطوري والتغيري … أحسن قيام ، إلا بعد عودته إلى هويته الحقيقة المتجسدة في واقعه الموضوعي والتاريخي والثقافي والسياسي والاجتماعي … والتراثي … ” ص 208 .
إذن من الجدير بالذكر أن تراث كل أمة من الأمم يمثل ذاكرتها الحية ويجسد هويتها ، التي تعتبر واجهتها ومنارتها التي تعرف بها . وعلى سبيل الختام فإنه قصد تجاوز هذا التأثر اللامحدود بالثقافة الغربية ، يجب أولا رد الاعتبار لثقافتنا والاهتمام بها وإدراجها وإدماجها حقيقة في مقرراتنا التعليمة والتربوية ، لأنها هي المنطلق الحقيق لمحاربة هذا الاستعمار الفكري ، ثانيا يجب أن ينزل هذا الموضوع إلى أرض الواقع بدل أن يبقى حبيس الخيال وسجين الكلام الفارغ الشبيه بالثرثرة أو أن يصبح موضوعا لمن لا موضوع له ، بل يكفي أن نمتلك الجرأة الكافية التي تخول لنا تناول مثل هذه الموضوعات دون ضغوط خارجية أو داخلية .
وفي النهاية ما نود الإشارة إليه بشكل ضمني هو أن الاستعمار لا يهدف إلى استنزاف خيرات البلاد الاقتصادية فحسب ، ولكن كذلك خيراتها البشرية والتراثية والأخلاقية والثقافية ، محاولا طمسها ، صهرها وتذويبها عبر فكر وثقافة ونمط حياة جديدة حتى تسهل عليه عملية الاستعمار الطويل الأمد حتى بعد خروجه ، ويكرس نظام التبعية في مختلف الشرائح المجتمعية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى