الرئسيةسياسةشواهد على التاريخ

نضال رجل من اليسار …عبدالله زعزاع، “سرديات” حلقة اليوم: الغرفة السوداء، أصمد أيها الرفيق !

سنختار بعض الفصول في هذا الحيز، بضع فصول من كتاب المناضل عبدالله زعزاع، نضال رجل من اليسار “سرديات”، وهو المؤلف الذي اعتبره كاتب تقديمه، الحسين الروكي أحد رفاق الراحل، شهادات حول تربيته ونضاله ومقاومته ومشروعه المجتمعي(المجتمع الاشتراكي)، “هي تعبيرات عن قناعته من خلال خيط ناظم تطبعه الكرامة الإنسانية وضرورة احترامها”….

جانب من فعاليات حفل توقيع كتاب: نضال رجل من اليسار لعبد الله زعزاع بفاس. ومع حركة بدائل مواطنة.

بقيت وحيدا لأيام بمكتب وضعوني فيه. لم أعد أحس. اجتاحت الحرارة كامل جسمي. أنام طيلة الوقت، إذا كنا نعتبر أن تنام هو أن تحيا وسط كوابيس مسامرة، وكان طلب الذهاب إلى المرحاض العلاقة الوحيدة التي صارت تربطني بواقع ما حولي، المشي ظل مشهد آلام جهنمية أتلظى بها وكأني أطأ على الآلاف الشفرات بأخمص قدمي.

وعند الوصول إلى المرحاض كان علي المشي في مستنقع بول. المرات الأولى كانت في الأخيرة التي أستطيع الجلوس خلالها لقضاء الحاجة، وفي ما بعد أكتفي بالتبول أو أبقى واقفا لحظة أتأمل ضعفي، لأعود من مكاني.
في اليوم الخامس، على ما أعتقد، نقلوني إلى موقع آخر، كنت بممر مواز للممر الرئيسي وكان سرير التخييم الذي احتواني بالمدخل. يحيل هذا الممر الصغير على غرفتين: واحدة سوداء تماما وتقع أمامي في منتهى الممر. إذا أردت رأسي يمكنني رؤية من ينتقل في الممر الرئيسي.
لكن مكثت لوقت قبل أن أتمكن من التموضع.
– أ الريفق …أ الرفيق….ما اسمك؟
كلفني طويلا هذا الصوت الخافت لينتشلني من خمولي فأتمكن أخيرا من إدارة رأسي يمينا وشمالا، خوفا من تنبه الحارس لأرفع قليلا العصابة التي لا تفارق عيني.
إن من يكلمني بدا منحنيا من نافذة الغرفة الأولى، بينما رؤوس أخرى بدت محادية لرأسه. أطلعتهم عن اسمي.
– أصمد أيها الرفيق.
أرسلت إشارات بالنفي قائلا:
– لا، لم أصمد.
– بلى يجب أن تصمد.

عبدالله زعزع على يسار الصورة

تكرر نفس المشهد مرات في نفس اليوم والأيام الموالية. خجلت من نفسي. وأمام أياديهم المقبوضة المرفوعة عاليا تحييني أدركت أنهم لم يفهموا بأني اعترفت بما كان سبب اعتقال عدد من الرفاق.

من موقعي كنت في وضعية مميزة لأعرف حضور الحارس أو غيابه.لزمني وقت لأفهم أن العشرات المتواجدين بالمكان هم مناضلون ورقاق. هيئة أجسادهم الممثلئة ووجوههم الشاحبة تشي عموما أن أعمارهم لا تتجوز الخامسة عشرة.

عندما يتحققون من غياب الحارس يقفون جميعهم تقريبا لإنعاش عضلاتهم وهم يقفزون في مكانهم أو يطارد البعض منهم الاخر من غرفة لأخرى، يتشاكسون ويتبادلون الضربات على الكتف والظهر.

في أوقات الصلاة يصطفون لإقامتها فاسمع لدعائهم. ذقس التعبد حاضر، لكن لا أستطيع أن أتبين أقوالهم إلا عندما يطلقون هتاف “الله أكبر. يجب إنه بمجرد غياب الحارس، فإن ثلث أرباعهم لا يقيمون الصلاة بل يمزحون وهم حذرون لتلافي كل مفاجأة. يقف كل يوم بالنافذة واحد منهم يزودني بمعلومات حول آخر من اعتقل، يسود الصمت حينذاك حتى أستطيع الإنصات دون أن يرفع مخاطبي نبرة صوته.

عبدالله زعزاع على يمين الصورة جاسا ومعه والمشتري بلعباس والحبيب بنمالك… وأخرين بالسجن المركزي بالقنيطرة

أحيانا يباغت أحدهم بحضور الحارس، فيتلقى خمسين ضربة على ظهره ومؤخرته في أجواء تجعل الحارس لا يتوقف إلا تحت تأثير استعطاف المعتقل، الذي يعد بعدم العودة لارتكاب الخطأ.

وكانت تخصل مفاجآت يوميةز على سبيل المثالن الحارس الذي يصفه المعتقلون ب”الحقير”، فكلما حضر للخدمة يعلن من بعيد وهو يصيح:

– ياولاد لقحاب هانا جيت “استعيدوا، هناك من سأدفن مؤخرتهم اليوم.
على امتداد مدازمته لا يكف عن الصراخ والسب. ويختلق دائما دوافع لتسليط سياطه على بعض المعتقلين. حراس آخرون يمارسون نفس المعاملة. لكن في “الدرب” لم يكن كل الحراس مريضين بهذا الشكل، رغم أنهم كانوا قساة.

كنت حالة خاصة بالنسبة لهم وكنت بسبب ضمادات بالقدمين والمعصمين. أمكث دائما بمكاني على سرير مخيم وأنا أدخن سجائر لم أكن “دري” بل “محمي الكوميسير”، فكانوا محايدين تجاهي، ما عدا حارسين، كانت تصرفاتهما عكس تصرفات الآخرين.

في أحدى لقاءات توقيع كتابه، نضال رجل من اليسار بالدارالبيضاء

لم أتغوط لأسبوع تقريبا فأكتفي بالتبول. طلبت يوما الذهاب إلى المرحاض. تعقبني كالعادة الحارس الموجود ذاك اليوم. كان اسمه “ضد الكل”، هذا ما لقبه به المعتقلون، لأنه بدوره لا يكف عن الصراخ. لكن ليس دائما ضد المعتقلين وحدهم، بل في وجه الحياة وكل العالم ويفرغ غضبه على المعتقلين.

في الحلقة القادمة: صارت حالتي تزداد من سيء إلى أسوأ…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى