رأي/ كرونيك

التسامح والانفتاح على الآخر في مرآة شهر الصيام

عمر حمزاوي احث غير مقيم
برنامج كارنيغي للشرق الأوسط

للمدن وثقافتها تأثير كبير على حياة سكانها المنتمين إلى الأقليات العرقية والدينية. فاعتياد التنوع والانفتاح على الآخر والتسامح مع الممارسة العلنية لشعائر مختلفة يشجع الأقليات على الخروج بهوياتها إلى الفضاء العام والتفاعل مع مواطني الأغلبية بشأنها.

أما حين يتراجع الانفتاح على الآخر ويصير التسامح قيمة مجتمعية متنازع عليها، فإن الأقليات تنغلق على نفسها وتتداول تفاصيل هوياتها وجمالياتها وروحانياتها وخباياها في مساحات خاصة بها مبتعدة عن الفضاء العام ومشككة في جدوى الاقتراب من الأغلبيات. وهنا يتحول تراجع الانفتاح على الآخر وانغلاق مواطني الأقليات على ذواتهم إلى دائرة شيطانية تحمل في طياتها من جهة كارثة انتشار خطابات كراهية الأجانب ومن جهة أخرى خطر السقوط في خانات التطرف والعنف والإرهاب للمهمشين اجتماعيا واقتصاديا بين مواطني الأقليات.

وليست المعلومات المتناقلة اليوم حول التداعيات السلبية لسياسات بعض الحكومات الأوروبية الرافضة لقدوم المهاجرين واللاجئين والمقيدة باستمرار لوجود الجاليات العربية والمسلمة على أراضيها والمرتبة من ثم لتصاعد التوترات بين الأغلبيات والأقليات (المجر مثالا) سوى ترجمة واقعية لأخطار تلك الدائرة الشيطانية، شأنها في ذلك شأن الحقائق المفزعة عن انضمام نفر من البريطانيين والفرنسيين والألمان وغيرهم من مواطني الدول الأوروبية ذوي الجذور العربية والمسلمة خلال السنوات الماضية إلى عصابات داعش وتورطهم في جرائمها الإرهابية.

فمن يطالع الحوارات التي أجرتها كبريات الصحف الغربية مع داعشيات وداعشيين أوروبيين يرغبون الآن في العودة إلى الدول التي يحملون جوازات سفرها وبطاقات هويتها بعد تراجع عصابات الإرهاب التي انضموا إليها، من يطالع هذه الحوارات سيكتشف الأضرار المجتمعية لانغلاق الأقليات على ذواتها، تحديدا الجاليات العربية والمسلمة، والنتائج المأساوية لتراجع الانفتاح على الآخر وتعثر التسامح بين الأغلبيات والأقليات والمتمثلة في سقوط بعض أبناء الأقليات في خانات التطرف والعنف والإرهاب.

للمدن وثقافتها تأثير كبير على حياة سكانها المنتمين إلى الأقليات العرقية والدينية. فاعتياد التنوع والانفتاح على الآخر والتسامح مع الممارسة العلنية لشعائر مختلفة يشجع الأقليات على الخروج بهوياتها إلى الفضاء العام والتفاعل مع مواطني الأغلبية بشأنها

على نقيض الدائرة الشيطانية من تراجع الانفتاح على الآخر وانغلاق الأقليات، تأتي يوميات مدينتين أعيش اليوم متنقلا بينهما. يوميات برلين وسان فرانسيسكو هي يوميات احتفاء بالتنوع العرقي والديني الحاضر في الشوارع والأحياء وفي المدارس والجامعات وأماكن العمل، هي يوميات تقارب بين أغلبيات تمارس التسامح وأقليات ترغب في الخروج بهوياتها إلى الفضاء العام ودعوة الجميع إلى الاقتراب منها.

طوال أيام شهر رمضان الكريم، شهدت برلين فعاليات دينية وأدبية وفنية عديدة للاحتفاء بوجود الجاليات العربية والمسلمة في المدينة وتعريف مجتمع الأغلبية والجاليات الأخرى بروحانيات وجماليات وشعائر الشهر الفضيل. ولأن قيمة التسامح حين تستقر ممارستها في الفضاء العام تصل إلى قطاعات واسعة من المواطنين وتشكل وعيهم قبولا للتنوع وانفتاحا على الآخر، لم يكن غريبا أن يغير الفريق الإداري لكلية الدراسات العليا في برلين (حيث أمضي السنة الأكاديمية الراهنة 2018-2019) من جدول التزاماتي المهنية ليتناسب مع صيامي وليسمح لي بقضاء العدد الأكبر من ساعات الصيام الطويلة (18 ساعة تقريبا) بعيدا عن المكاتب وقاعات الاجتماعات.

لم يكن غريبا أيضا أن يتعاطف المشرفون والعاملون على إعداد الطعام للباحثين المقيمين في الكلية (يقدم للباحثين في كلية الدراسات العليا وجبة يوميا) معي ويتبرعوا بإعداد وجبة يومية لإفطاري فيما وراء ساعات عملهم الاعتيادية (تغرب الشمس في برلين حول الساعة التاسعة مساء، أما ساعات العمل الاعتيادية فتنتهي في الخامسة مساء). بل تحلق حول مائدة إفطاري في اليوم الأول من رمضان بعض العاملين على إعداد الطعام وشجعوني على التمسك بالصيام لما به من فوائد روحانية وجسمانية كثيرة (سردوها هم بالتفصيل).

أما في سان فرانسيسكو، وقد كنت بها بين جمعتي رمضان الأولى والثانية، فقد أبهرني بها كالعادة النشاط الخيري الواسع المرتبط بشهر رمضان. كنائس ومعابد تنظم موائد إفطار جماعية، وجمعيات إسلامية تدعو غير المسلمين قبل المسلمين إلى الاحتفاء بالشهر الكريم من خلال المشاركة في فعاليات عديدة، ومحطات إذاعية وتليفزيونية وصحف ومواقع إلكترونية تنشر نصائح صحية وغذائية للصائمين وتعرف غير الصائمين بتفاصيل الصيام.

أبهرني أيضا التنوع الهائل في الهويات العرقية للجاليات المسلمة التي تمتد جذورها من أقصى الشرق في آسيا إلى أقصى الغرب في بعض الجزر اللاتينية وبين الدفتين جاليات مسلمة ذات أصول أوروبية وإفريقية وشرق أوسطية. يفرض ذلك التنوع الهائل ذاته على الفضاء العام في ملامح وألوان بشرة وملابس تقليدية شديدة الاختلاف، ويخرج على مجتمع الأغلبية (إلى اليوم يشكل الأوروبيون البيض الأغلبية في الولايات المتحدة الأمريكية، وإن كانت هذه الحقيقة في سبيلها إلى التغير بحلول عام 2050) والأقليات الأخرى في بشاشة تدعو الآخر إلى المشاركة في روحانيات وجماليات الإسلام دون خوف أو تحفظ.
كل عام وأنتم بخير.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى