رأي/ كرونيك

الربيع العربي: وماذا بعد عشر سنوات؟

لا يمكن للأحداث التي عرفها الوطن العربي منذ عشر سنوات إلا أن تثير التصورات والمواقف المختلفة بل والمتناقضة سواء كانت عربية أو أجنبية. لكن القفز على الوقائع، واعتماد التأويلات المتباينة لا يمكنها أن تغطي الحقائق التي تتعالى على التحليلات الجزئية، والأحلام الطارئة والمؤجلة، والأساطير الواهية التي تستغل ما وقع لغايات ومقاصد خاصة ترمي من ورائها إلى الإيهام بتقديم بدائل تتعارض مع ما فرضه الواقع الفعلي الذي أدى إلى تلك الأحداث، متصورة أنها بذلك ستؤدي إلى خلق واقع جديد يخدم مطامحها ومصالحها الخاصة. وبعد عشر سنوات تستأنف المظاهرات في الشارع التونسي، وكأن الزمن ظل متوقفا طيلة كل هذه المدة. هناك ثلاث حقائق يتم تجاهلها حين نتحدث عن الربيع العربي أسوقها بإيجاز واختصار.

الحقيقة الأولى: المشاكل والمطالب الموحدة:

أبان الربيع العربي أن الشعب العربي واحد، وأن مشاكله موحدة، وطموحاته للتحرر من ربقة العسف مشتركة، ولن يكون مستقبله سوى واحد. لا أريد التركيز هنا على العوامل التي جعلت الشعب العربي واحدا رغم تعدد الأوطان، والدول، ورغم تنوع الأعراق واللغات والطوائف. فهذا معروف لدى الجميع حتى من لدن من ينكرونه معاندة وجحودا. إن التاريخ المشترك الذي يتعدى أربعة عشر قرنا صنع متخيلا شعبيا موحدا، وساهم أيضا في صناعة واقع واحد هو الذي يجمع بين كل من يعيش في هذا الوطن العربي.

وإذا تداعى أي عضو في هذا الجسم في قطر عربي ما تسهر له أعضاء أخرى في أقطار أخرى.

وتقدم لنا الوقائع المادية منذ الصليبين إلى حروب الاستعمار إلى الاستقلالات السياسية إلى الآن ما يؤكد ذلك.

لن أتحدث عن أصداء ما كان يقع في فلسطين أو في العراق أو في لبنان منذ أواسط القرن الماضي وحتى نهايته… في الكثير من الأقطار العربية. وليس الربيع العربي آخر مثال: فاندلاع ثورة الياسمين في تونس حركت المشترك، على الأصعدة كافة، وجعلت صرخة المطالبة بتغيير السائد من أجل الخبز والكرامة والحرية واحدة ومشتركة.

استغلت جهات طائفية، وعرقية، ودينية، وسياسية ما وقع لتقدم بدائل لما كان سائدا، فجاءت الموجة الثانية، بعد ثماني سنوت على الموجة الأولى في السودان والجزائر ولبنان والعراق لتؤكد أن من يزعم أن هناك خلافات من الموقف من الربيع العربي واهم، وأننا جميعا في الهم شرق، من جهة أولى. ولتبين من جهة أخرى أن الطائفية والمحاصصة والحكم العسكري مهما كانت شعاراته ضد تحقيق المطالب الشعبية. ورغم اختلاف آثار هذا الربيع على الأقطار العربية بحسب “خصوصية” كل منها الجيوسياسية، فإن القاسم المشترك ما زال قائما. وأن آفاق الانتظار والتوقع مفتوحة على المستقبل الذي يمكن أن تتولد فيه موجات أخرى.

الحقيقة الثانية: مطالب شعبية لا ثقافوية:

إن الشعب الذي عبر عن رفضه للواقع المشترك والسائد، أيا كان النظام العربي، لم يكن يطالب بنظام تسود فيه المسيحية، أو تحكم فيه السنة، أو الشيعة، أو الطائفة، أو عرق معين، أو تهيمن فيه لغة خاصة، أو يعود فيه العسكر إلى الحكم. لقد تعايش هذا الشعب مع كل اللغات والطوائف والأعراق، وكان كل أفراده يتقاسمون الآلام والأحلام المشتركة، وكلهم ساهم في هذا التاريخ الطويل بإيجابياته وسلبياته. ومن ينبش اليوم ذاك التاريخ وما قبله، محاولا توزيع الهويات حسب أهوائه، فيجعل هذا أمازيغيا، وذاك كرديا، وهذا سنيا أو شيعيا تظل رؤيته لا تاريخية ولا علمية ولا واقعية. إن كل ما نجم من آثار الربيع العربي كان ردود أفعال حاول الكل استغلالها لفائدته، أو توجيهها لمصلحته، سواء كان رافضا للأحداث أو معها.

لقد تشكلت الهويات في الوطن العربي بتشكل الحدود التي خلقها الاستعمار والتي دافعت عنها الدول التي جاءت بعد الاستقلالات وعملت على تكريسها. وصار كل منها يسعى لـ”يخلق” له تاريخه الخاص ضد التاريخ العام والمشترك.

لكن النبش في تلك التواريخ وإحياء بعض “علاماتها”، وادعاء “ملكيتها” لا يمكنه أن يحل المشاكل الحقيقية التي تتخبط فيها الشعوب وهي تعاني من الفساد والقمع وخنق الحريات وسياسات التجهيل والتفقير خلال عدة عقود. الشعب يحلم غدا بالمستقبل الذي يطمئن فيه على أبنائه، وعلى مصير الأجيال القادمة. وفي هذا اليوم، يحلم بما يمكن أن يسد به الجوع، وتتحقق له فيه الكرامة، والحرية في “الوطن” الذي يحمل جنسيته. هذه هي المطالب التي رفعها، وسيظل يرفعها الربيع العربي.

وهذا هو المشترك الذي يجمع كل مواطني وشعوب الوطن العربي أيا كانت أصولهم أو ما يدعون أنها كذلك. إن الباحث الذي لم يجد المختبرات والمراكز التي تتفتق فيها مواهبه وإمكاناته يخلي لك كل التاريخ الذي تفتخر به، أو تسعى إلى إحيائه، ما دام يجد مكانا ما في العالم، لا علاقة له به، تتحقق فيه ذاته؟ كما أن الشاب العاطل مستعد في أي وقت لكي لا يتكلم لغتك إذا وجد مكانا يستوعبه، ويمكِّنه من تعلم لغته إذا ما وفر له لقمة سائغة. إن كل المهاجرين والمهجرين من الوطن العربي، أيا كانت جنسياتهم أو لغاتهم، أو أعراقهم، لم يختاروا الهجرة إلا إكراها واضطرارا.

الحقيقة الثالثة: وهم أزلية السلطة:

تؤكد الحقيقتان السابقتان وجود واقع مشترك ومطلب موحد لدى شعوب الربيع العربي. فما الذي أدى إلى تأكيد هاتين الحقيقتين حتى تولدت هذه الأحداث؟ إنها الحقيقة الثالثة التي ترى أن السلطة أزلية لمن يمتلكها أيا كانت الطريقة التي وصل بها إليها. وبما أن السلطة توفر المال والحرية فإن من لا يملكها عليه أن يعيش حياة الفقر والعبودية، والتصفيق وإلا عُدّ معارضا. هذه الحقيقة تؤكد بدورها المتخيل الموحد نفسه عند الحاكم العربي وتجعله أيا كان النظام، يشترك مع نظرائه في ممارسة حقه كما يحلو له حتى آخر حياته، وإذا كان النظام جمهوريا يورثه لأحد أبنائه أو إخوانه.

لم يتحقق بعد عقود من اشتغال هذين المتخيلين لدى الحاكم والشعب أي من الأحلام الشعبية الكبرى، أو من المطالب الحياتية الصغرى التي ظل يوعد بها. فكان الانفجار الذي اختصره الشعب في كلمة: كفى! وأبانت العشر سنوات أن دار لقمان على حالها، وإن تبدلت الوجوه والأقنعة. فالصراع على السلطة محموم، وكل يريد أن يحتلها، بشعارات متعددة و”بديلة” ليمارس الأدوار نفسها التي جاء الربيع لمناهضتها، وكل يستعين بمن يمده بما يفرض به نفسه على غيره.

لماذا هيمن هذا المتخيل المزدوج والمشترك لدى طرفي المعادلة في الوطن العربي؟ إن المتخيل الشعبي، لا المثقفي، واحد لأنه ظل مشدودا إلى التاريخ والأحلام الكبرى التي لا تجعله يميز بين ما هو قطري وما هو عربي. فهو يحلم بوطن كبير يتحقق فيه التعاون بين الأقطار العربية ليعم الرخاء والعيش الكريم. أما متخيل الحكم فهو يرى القطر الذي يحكمه موئل سلطته الأبدية. وعليه استغلال ما هو متصل بالمتخيل الشعبي في شموليته لخدمة مصلحته الخاصة. وهنا مكمن التمايز بين المتخيلين وتناقضهما اللذين أديا إلى الانفجار.

ماذا بعد عشر سنوات من الأحداث؟ ما دمنا لا نطرح الأسئلة سنظل نستنسخ الإجابات المولدة للكارثة.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى