ثقافة وفنونذاكرة

مع جان جنيه… يوميات لص أو لص صغير وكاتب كبير (الحلقة الأولى)

1: يوميات لص

أردت أن أكون خائناً، لصا، ناهبا، مخبرا، كارها، مدمرا، محتقرا، جبانا. بضربات الفأس والصراخ، قطعت الحبال التي شدتني إلى عالم الأخلاق المعتادة، أحيانا فككت عقدها بشكل منهجي. بوحشية، أبتعدت عنكم، عن عالمكم، عن مدنكم، عن مؤسساتكم. بعد ما خبرت حظركم الإقامة،

سجونكم، إنذاركم ، اكتشفت مناطق خالية شعرت فيها بفخر أكبر. ” (ج.ج.) 1 – المجتمع الإجرامي حسب جينيه  يختصر بأكمله في هذه الكلمة (المقتطفة من “يوميات لص” ). قال طبيب محلف لدى إحدى المحاكم إن جان جينيه وصل إلى “العمى الأخلاقي”. هذا ليس خطأ لأن جينيه مرشد أخلاقي يتهم المجتمع ويريد إعادة تأهيل المجرمين.

يجب أن نتذكر أن الإنسان الفاضل ليس هو الرجل الذي يصنع لنا أخلاقا ولكنه الشخص الذي يبني أخلاقا، أيا كانت . في بعض النواحي، يشبه جينيه محطما آخر للأصنام في الأدب: الماركيز دو ساد. مثل الماركيز دو ساد تماما، قدم جينيه نفسه كإنسان فاضل. قام جان بول سارتر وجان كوكتو أيضا بمنحه هذه الصفة. لكن مثل ساد مرة أخرى، إلى الحد الذي تتعارض فيه أخلاقه مع الأخلاق التي يقبلها المجتمع، يكرس جينيه نفسه للعزلة من خلال الدفاع عن آرائه.

لا يمكن لتعريف قانوني بسيط ترجمة معنى الجريمة وفقا لـجينيه. في الواقع، من بين السلوكات الثلاثة التي تميز العالم الإجرامي بالنسبة للكاتب، أي السرقة والخيانة والشذوذ الجنسي، فإن واحدا من هذه السلوكات، كما نعلم، يعاقب عليه القانون: السرقة. في زمن جينيه، تضع هذه السلوكات الثلاثة المعنيين بها في موقف الاستبعاد من المجتمع التقليدي.

في وقت لاحق، سوف تسمى أيضا بالسلوكات المنحرفة بدلا من الجانحة، لكن هذه السلوكات تصبح قيما في ثقافة أخرى، الخيانة والسرقة والشذوذ الجنسي هي المواضيع الأساسية في هذا الكتاب. “توجد علاقة بينها”، كما كتب جان جينيه في ‘يوميات لص”.

2 – عالم الانتقام الوهمي:

من خلال رد الفعل على هذا الوصم الذي خبره منذ الطفولة، على صفة اللص التي سيلصقها به المجتمع في وقت مبكر (سنعود إليها)، انطوي جينيه على نفسه، في عالمه الشخصي. بنى لنفسه شخصية أخرى.

أعاد تعريف نفسه، جينيه حين  اعتبر نفسه مجرما. تصرف وتفاعل وفقا لنماذجه الشاذة، مقترفا أعمالا إجرامية. كشف سارتر وكوكتو، في جينيه، عن هذا اللجوء إلى عالم انتقامي وهمي يمكّن من إنكار الموقف البائس الذي يجد نفسه فيه ويضع مكانها صورة مثالية عن المجرم.

هذه الصورة المزينة تسمح له بحفظ شخصيته. من خلال إنكار الواقع المادي، ينطوي المجرم على الخيال، على عالم الفكر، في “معجزة الوردة”، حكي الكاتب كيف عاش، في دار ميتري للتأديب، مع رفاقه، مغامرات وهميّة تمتد أحيانًا لأيام أو أسابيع؛ يتخيلون أنفسهم رغاوي سفينة متمردة أو سفينة قراصنة، يهربون، بفضل هذه الرحلات الرائعة، من الظروف المؤلمة لوجودهم.

جان بول سارتر تحدث عن “الأحكام الرائعة” لجينيه. يؤكد جينيه بنفسه هذه المقاربة: إذا تفحصت ما كتبته، أجد فيه اليوم، رغبة متواصلة بصبر، في إعادة تأهيل الكائنات، الأشياء، المشاعر التي تعتبر حقيرة. رغبة في تسميتها بالكلمات التي عادة ما تعني النبل، ربما كان ذلك صبيانيا، سهلا: كنت أسير بسرعة. لقد استخدمت أقصر الوسائل، ولكني لم أكن لأفعل ذلك، لو أن هذه الأشياء، هذه المشاعر (الخيانة، السرقة، الجبن، الخوف) لم تستدع، في قرارة نفسي، الصفة المخصصة عادة ومن طرفكم لأضدادها (مقتطف من “يوميات لص”).

يطابق جينيه دائما الألقاب التي تُعتبر “نبيلة” مع المشاعر التي تُعتبر “دنيئة”. يتحدث عن طفل مجرم كأنه “سفاح لطيف”. القاتل “مجيد”، والعمل الشرير “جميل” ، والانحطاط الأخلاقي علامة على “القدسية”. مثلما يستخدم طفل أو رجل من الحضارة البدائية اللغة من خلال منحها فضيلة سحرية له، يسمي جونيه الكائنات والأشياء ملصقا بها الصفات التي تغير طبيعتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى