حول العالمميديا و أونلاين

المداميك المُتقلِّبة للإسلام السياسي في الجزائر..السلطة تزاوج بين المقاربة الناعمة والخشنة لمحاربةالنزعة الجهادية(الحلقة3)

دالية غانم باحثة مقيمة في مركز كارنيغي للشرق الأوسط. تتمحْور أبحاثها حول العنف والتطرّف السياسيين، والتعصّب، والإسلاموية، والجهادية، مع تركيز خاص على الجزائر وعلى انخراط النساء في التنظيمات الجهادية.

إن مختلف المجموعات الإسلامية في الجزائر، ومن ضمنها الميليشيات والفصائل المعتدلة والشبكات الشعبية، توفّر منبراً لاستقراء المستقبل الاجتماعي السياسي المُلتبس في البلاد.

أثبت هذا النصر أنه باهظ التكلفة. فالعنف العشوائي الذي مارسته قوات الأمن جاء بنتائج عكسية، وحفز العديد من الشبان الجزائريين على التطرّف العنيف، فالتحقوا بالجماعات الجهادية إما للحصول على الحماية، أو الاحترام، أو الانتقام.

كما انضمّ أولئك الذين لطالما تجاهلتهم أو همّشتهم السلطة إلى جماعات على غرار الجماعة الإسلامية المسلحة. والحصيلة: سقوط قرى وبلدات برمتها في حضن هذه الجماعة التي طبّقت أصول الشريعة بحرفيتها، وأشرفت على إدارة الشؤون المحلية وسط انهيار هيكلية الحكم الرسمي بفعل الحرب.

بيد أن الدعم الشعبي للجماعة الإسلامية هَمَدَ في خاتمة المطاف، حين أصبح عنف هذه المنظمة عشوائياً ويستهدف أناساً كانوا قد عرضوا دعمهم المعنوي والمادي لها. وبعدها يمّم العديد من هؤلاء وجوههم نحو السلطة لطلب المساعدة فقامت هذه بتسليحهم لحماية أنفسهم. وحين بدأت جُزُر المقاومة تبرز في المناطق التي يسيطر عليها الجهاديون، غيرّت السلطات الجزائرية وجهة استراتيجيتها: فإلى جانب مضاعفة العمليات العسكرية ونشاطات مكافحة الإرهاب على الأرض ومواصلة ملاحقة الجهاديين (مطاردتهم حتى الحدود الجزائرية- التونسية)، استثمرت السلطات أيضاً في عمليات التنمية لاستئصال التطرّف من جذوره، وعرضت على الجهاديين مخرجاً من خلال تطبيق سياسة مصالحة استهدفت تسريح، ونزع سلاح، وإعادة دمج المقاتلين السابقين الذين قرّروا نبذ العنف.

المقاربة الأمنية

من 1992 إلى 1995، كانت السلطات الجزائرية في حالة إرهاق نظراً إلى عنف الجماعات المسلّحة المعارضة وقوّتها، ولاسيما الجماعة الإسلامية، إلى درجة أن العديد من المحللين توقعوا سقوط النظام واستلام الإسلاميين لمقاليد الحكم. لكن بدلاً من ذلك، أثبت الجهاز الأمني للبلاد، بقيادة الجيش الوطني الشعبي، أنه متماسك، وفعّال، ويمتلك قدرات عالية. وكما أوضحت ثيدا سكوبول، “تستطيع الدولة أن تبقى مُستقرة إلى حد معقول، وصامدة في وجه تمرّد جماهيري حتى ولو تعرّضت إلى عملية نزع شرعية واسعة النطاق، إذا ما واصل الجهاز القمعي تماسكه وقدرته على الخدمة والأداء”.

طبّقت السلطات مقاربة يقودها الأمن في السنوات الأولى للنزاع (بين 1992 و1995). ومن خلال إعادة جدولة مدفوعات الدين الخارجي العام 1995، تمكّنت السلطات الجزائرية من إعادة تخصيص بعض الأصول لتحديث الجيش وتزويده بالتكنولوجيا المتطورة، كما نشطت لإضفاء الطابع المهني على جهازي الشرطة والجمارك. وعلى الرغم من أن بعض الشبان انضموا خلال هذه الفترة إلى الجماعات الجهادية المسلّحة، إلا أن العديد منهم التحقوا أيضاً بالجيش الوطني، خاصة منهم أولئك الذين جاءوا من بلدات صغيرة أو متوسطة الحجم في داخل البلاد.

عَرَضَ الجيش على المجندين فرصاً مهنية كبيرة ومزايا جيدة، وكذلك إمكانية مغادرة بلداتهم والحصول على حياة أفضل، والمشاركة في القتال ضد الإرهاب، وحماية بلادهم، كما ورد في حملات العلاقات العامة؛ تلك الحملات التي ساعدت الجيش كثيراً في تلميع صورته.

شنّت قوات الجيش الوطني غارات برية وجوية كاسحة في مناطق ريفية (على غرار دوار واد بني زرمان ودوار بني عارف وعطابة) وأخرى جبلية (مثل جبال زبربر وجبال الشريعة). وجرت تعبئة قوات الشرطة في مناطق ريفية، ونفّذت وحدات الدرك الوطني عمليات في كلٍ من المناطق الحضرية والريفية. كما ساعد سلاح الجو والدرك والشرطة وعناصر القوات الخاصة الجيش بقوة على القيام بعمليات ضخمة مثل معركة عين دفلة. وخلال هذه العملية في مارس 1995، ذُكر أن الجيش قتل نحو 800 جهادي في مدينتي وهران وأرزيو وكذلك في جبال جرجرة.

ومع الوقت، قلّصت قوات الأمن إلى حد كبير سطوة الجماعات الجهادية المسلحة واستعادت كميات كبيرة من الأسلحة. كان المعتقلون الجهاديون عوناً كبيراً للدولة وأنصارها في مجال جمع المعلومات الاستخبارية وإحباط هجمات كان مخططاً لها.

شكلّت الدولة الجزائرية قوات موازية للمساعدة على قلب موازين القوى في النزاع. ففي العام 1994، كوّنت سلسلة من الميليشيات (قُدّر عددها بنحو 200 ألف عنصر) للعمل في الأطراف القصية من البلاد. إضافة إلى ذلك، تم تمديد فترة التجنيد إلى 18 شهراً، واستُدعي زهاء 15 ألف عنصر احتياطي إلى الخدمة في أيار/مايو 1995 لمدة 12 شهراً بهدف المساعدة على ضمان أمن البلاد. وقد دعم كل هؤلاء الحكومة في قتالها ضد الجماعات المسلحة، وحماية المدنيين، ومنع إعادة تأسيس المجموعات المسلحة في المناطق المحررة، ما سمح للناس بالعودة إلى منازلهم. وهكذا، ساعدت هذه القوات بشكل كبير في إضعاف الجماعات الجهادية المسلحة، التي فقدت أكثر من 6 آلاف مقاتل بين عامَي 1994 و1996.

بعد أن أدرك النظام الجزائري أن المقاربة الأمنية ليست كافية لمكافحة الجهادية ولاستعادة الشرعية في أعين الجمهور، اغتنم فرصة إعادة جدولة ديون البلاد واستثمر في مجالات التنمية، موظّفاً فيها نحو 20 مليار دولار.

كما اتخذت الحكومة سلسلة إصلاحات اقتصادية، بما في ذلك إجراءات التعديل الهيكلي عبر تحرير الأسعار والتحرير الجزئي للاقتصاد الحمائي في البلاد، للسماح بتجارة دولية أوسع وتشجيع الاستثمارات الأجنبية. هذه الإجراءات ساعدت الحكومة على استقدام شركاء دوليين وأيضاً من القطاع الخاص كانت في أمس الحاجة إليهم للحفاظ على نفسها مالياً وعسكرياً، ووفّرت لها هذه الخطوات الأصول التي يمكنها استعمالها لتحديث قواتها العسكرية وكذلك أجهزة الأمن القمعية.

علاوة على ذلك، سمحت المساعدات الدولية والإصلاحات في العام 1995 للنظام بتعزيز برامج الرعاية الاجتماعية في مجالات الإسكان، والتوظيف، والعناية الصحية، والبنى التحتية. وفي تلك السنة نفسها، زادت الحكومة الأموال المخصصة لقروض الإسكان من 10 ملايين دولار إلى 15 مليون دولار، ووضعت جانباً 2.2 مليار دولار للمواد الغذائية والأدوية، وأيضاً 2.2 مليار دولار للسلع الرأسمالية.

وهكذا، ومن خلال تلبية احتياجات السكان على نحو أفضل، بدأ النظام بتهدئة التوترات الاجتماعية، وكبح جماح توسّع التطرف الجهادي العنفي عبر مجابهته في عقر داره.

تلا كل ذلك تغييرات إدارية في حقل الولايات. فقد عمدت الدولة، التي خشيت من اختراق الإسلاميين للنظام السياسي (حيث أن العديد من الولاة كانت لهم علاقات وثيقة بجماعات مسلحة)، وأيضاً بسبب رغبتها في إعادة فرض احتكارها على هياكل الحكم في البلاد، عمدت إلى عزل العديد من المسؤولين الذين عملوا في قطاعات الجمارك أو الإدارات العامة. تم تكليف الولاة الجُدد بتنفيذ السياسة الوطنية التي تهدف إلى مساعدة الشباب العاطلين عن العمل في تأمين وظائف.

وقد شجّع المسؤولون الحكوميون الجيش ومروحة من المؤسسات التي تملكها الدولة على توظيف أعداد أكبر من الخريجين، حيث توافر نحو 150 ألف وظيفة في الفترة بين 1994 و1996. في هذه الفترة نفسها، شُكّلت لجان محلية لدراسة إمكانية إطلاق مشاريع استثمارية، وسجّلت وكالة حكومية لترقية ومراقبة الاستثمارات 900 مشروع جديد يشمل رواد أعمال محليين، ما خلق ما بين 70000 إلى 100000 فرصة عمل إضافية.

إضافة إلى هذه الجهود لدعم التوظيف، واجهت الحكومة مشاكل الإسكان الكبرى في البلاد، وأعلنت عن بناء عدد كبير من الوحدات السكنية الجديدة في مايو 1995.

كذلك، قدّمت الدولة أصولاً محدودة وأشكالاً أخرى من الدعم لمساعدة المواطنين على العودة إلى منازلهم بعد فرارهم لأسباب أمنية. ففي الفترة بين 1993 و1997، كان عدد الجزائريين النازحين في الداخل قد وصل إلى 1.5 مليون شخص، استقرّ العديد منهم في ضواحي المدن الكبرى. ولمساعدة هؤلاء على العودة إلى منازلهم ومعالجة الخلل السكاني، تبنّت الحكومة سياسة إعادة تنمية وطنية، لكن 170 ألفاً فقط من النازحين عادوا إلى منازلهم، فيما واصل 1،3 مليون نسمة حياتهم على أطراف المدن حيث أُعيد توطينهم.

ومع ذلك، ساعدت هذه الإجراءات على بدء استعادة الثقة الشعبية بالدولة، وحدّت من قدرة الجهاديين على استقطاب المُجندين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى