رأي/ كرونيك

وجهة نظر في علاقة بالاعتقالات والمتابعات الأخيرة وتصريحات رئيس النيابة العامة…

محمد محيفيظ

في علاقة بالاعتقالات و المتابعات الأخيرة، أدلى رئيس النيابة العامة، محمد عبد النباوي، مؤخرا بتصريحات، نقلتها عنه الصحافة نهاية الأسبوع المنصرم، اعتبر فيها أن محاكمات المدونين ” تتم في إطار القانون “، ذلك أنه – كما قال- ” …حين يكون هناك فعل ما مجرم بمقتضى القانون، و يصل إلى علم النيابة العامة فهي تحرك فيه المتابعة، في إطار المساطر الجارية على المحاكم..فلا يوجد حينها أي تجاوز، أو تعد على الحقوق..”.

و  أضاف  عبد النباوي، أنه ” إذا كان الأمر يتعلق بمقتضى قانوني، فكيف يعاب على النيابة العامة تطبيقه ؟! ” ، و أنه ” إذا أراد المشرع أن يجعل هذه الأمور مباحة فما عليه سوى أن يرفع التجريم عن هذه الأفعال، حينها لن يتابع أحد.”

هذا دفع قوي و لا يصح – من زاوية حركة حقوق الإنسان – تجاهله أو الاستهانة به..و ذلك لعدة اعتبارات، منها أن من صالح الحركة الحقوقية أن تعزز دور النيابة العامة، كمؤتمنة على حقوق الجميع في توازنها..و من صالحها أيضا الحرص على التمايز بين السلطتان، التشريعية و القضائية، و استقلال كل منهما..

ثم أنه بخصوص النصوص التي استندت إليها النيابة العامة، فهي مواد توجد في أغلب مدونات القانون الجنائي في كل الدول الديمقراطية، و سيكون من باب التزيد و العبث المطالبة بحذفها جملة..فالقانون الجنائي الفرنسي، مثلا ، يتضمن العديد من المواد الشبيهة.

و مثلا، فالمواد 434 – 25 و 434 – 44 من هذا القانون تجرم أي تحقير لحكم قضائي، كما أن المادة 434 – 24 تجرم إهانة قاضي بمناسبة ممارسة مهامه.

لكن، هل يعني كل ذلك أن دفوعات  عبد النباوي، صحيحة في كل استنتاجاتها، بحيث لا يمكن إلا التسليم بنتائجها، أي شرعنة المتابعة و بالتالي الإدانة ؟؟/

بما أننا أحلنا إلى القانون الفرنسي، فسيكون مفيدا التمعن في بعض الاجتهادات القضائية الفرنسية بخصوص هذه النوازل، و سأكتفي هنا بواحدة لدلالتها:

– منذ شهر مارس 2013، تاريخ استدعاء الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي من طرف القاضي Jean Michel Gentil للتحقيق معه في قضية بيتانكور، قام أحد أنصاره ، و هو النائب البرلماني Henri Guaino، بإعطاء تصريحات عديدة يهاجم فيها قرار القاضي، و يتهم – دون ذكر إسم القاضي المعني – القرار بأنه ” جالب للعار ” و غير مسؤول ” و غير ذلك من العبارات القدحية..
و قد تمت متابعة غاينو بمقتضى المواد المذكورة أعلاه..فبرأته المحكمة الابتدائية، غير أن محكمة الاستئناف أدانته و قضت بتغريمه 2000 أورو..ثم عادت محكمة النقض إلى تبرئته..!!.

ما يهمنا نحن هنا، هو الحيثيات التي اعتمدتها المحاكم التي قضت بالتبرئة..فرغم وجود نصوص صريحةلم يتحصن القضاة بحجة عبد النباوي القائلة بأن أمر التجريم من دونه يهم المشرع، و أنهم يكتفون بتطبيق نص القانون..

لقد كان من الحيثيات التي اعتمدها الحكم بالبراءة، و هي التي نؤكد عليها هنا بشدة، اعتماد مبدأ التناسب..و خلاصته أن القاضي و هو يحكم عليه أن يوازن بين الحقوق المتعارضة، و بناء عليه رأت المحكمة أن إدانة المتهم، حتى و إن حفظ حق الغير من جريمة الإهانة و القذف، قد يؤدي إلى ترهيب الناس من المساهمة في النقاش الانتقادي لكل الممارسات و المؤسسات، و هو النقاش الضروري في كل مجتمع ديمقراطي..

– ثانيا، إذا استحضرنا الكثير من التوصيات الحقوقية في هذا الشأن، أثارت انتباهنا توصية تحث على التمييز، في مسألة السب و القذف، بين الضحايا من الناس العاديين، و التي يجب أن يكون القضاء صارما في التصدي لها..و الناس العموميون، إن صح التعبير، أي كل من تجعله مهنته أو نشاطه، في تماس مع الشؤون العامة، و هنا يطلب منهم نوعا من التحمل و سعة الصدر، بمقتضى مبدأ التناسب ذاته..

إذا كان الأمر كذلك في مجتمع مثل المجتمع الفرنسي، و هو المجتمع الذي تمرس على النقاش العمومي منذ قرون، و حيث التخوف من انكماش هذا الحق مستبعد جدا، و مع ذلك استحضر القضاء هذا الاعتبار و اعتمده، فما عساه يكون الأمر في مجتمع كمجتمعنا، لا زال يتهجى بتلعثم مقتضيات هذا الحق و صيغ إعماله؟؟.

هنا و الآن..إذا استحضرنا الإرادة التي يتفق عليها الجميع، و يتضمنها الدستور، و هي إرادة العمل من أجل بناء قواعد مجتمع ديمقراطي، و أن حرية التعبير مقوم رئيسي من مقومات هذا المجتمع المأمول ، و أن حرية التعبير – ثانيا – خير من الخيرات العامة للمجتمع التي يتعين على القضاء، الجالس قبل الواقف، أن يحرص على تعهدها و التشجيع عليها، و استحضرنا ثالثا، أنه بعد عقود من تكميم الأفواه و الحجر، و حيث أن مجتمعنا لا زال يتمرن على ممارسة هذا الحق، فلا مفر من أن ترافق ممارسة هذا الحق انزلاقات و تجاوزات هنا و هناك، يتعين محاصرتها بالتثقيف الحقوقي و المواطني، و حتى إن اقتضى الأمر زجرا، أن يكون مخففا ما أمكن و مراعيا لخطر إجهاض ممارسة حق حرية التعبير..

إذا استحضرنا كل ذلك فهذا يعني، أن دور القضاء في تعزيز حقوق الإنسان لا يمكن أن يبقى سجين ممارسة نصية ..بل عليه أن يستلهم الممارسات الفضلى في المجال و هذا يتطلب، ضمن ما يتطلبه التأكيد على التكوين في مجال حقوق الإنسان للقضاة بمختلف درجاتهم..

لكن الموضوعية تقتضي أيضا، من الحركة الحقوقية أن لا تكتفي بصيغ الإدانة المجملة القطعية لكل متابعة، و التضامن المسبق المطلق مع كل متابع، بل من واجبها أن تتحمل أيضا مسؤوليتها، تنويرا و تثقيفا، اتجاه عموم المواطنين لتمكينهم من الصيغ الصحيحة و الحضارية لتفعيل هذه الحقوق و ، حتى لا تستغل كحجج لتعزز كل المتربصين بحقوق الإنسان …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى