رأي/ كرونيك

الفعل التربوي ورهانات الدرس الفلسفي

يعتبرمجال التربية حقلا معرفيا اهتمت به مختلف مقاربات العلوم الانسانية كالفلسفـــة ، علم الاجتمــــــاع علم النفس ويعرف حقل سوسيولوجيا التربية مقارباته متعددة للظاهرة التربوية في بعدها الاجتماعي ،ورغم انها تتميز بالاختلافات من حيث فترة ظهورها وكدالك مضامينها إلا أنها تجمع على هدف وهو كشف علاقة المؤسســــــــة التربوية بالمجتمع بصفة عامة والمتعلم على وجه الخصوص، وقد حدد عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركايـــــم باعتباره أول من أسس لحضور السوسيولوجيا في الفعل التربوي حيث تنبه إلى طبيعة العلاقة النوعية الرابطة بين التربية والنظام الاجتماعي .فالتربية إذن هي فعل اجتماعي يتم ويمارس في مجتمع محدد وفي لحظة تاريخية معطاة وهدف التربية هو تحقيق إنسان لا كما خلقته الطبيعة و إنما هو الإنسان كما يريد المجتمع أن يكون ، أما من الناحية الفلسفية وبالتحديد التيار الماركسي يتخذ مفهوم التربية معنى آخر يتجلى في كون الفعل التربوي الذي يعكس تلك العلاقات الاجتماعية والاقتصادية القائمة في مجتمع ما وفي هذا الطرح فان النظام التربوي يقوم بوظيفة إعادة الإنتاج للعلاقات القائمة في النظام العام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي .
ومن خلال الاختلاف القائم بين تلك التيارات الفكرية حول الفعل التربوي يمكن الحسم في نقاش موضوع الفعل التربوي في ظل الدرس الفلسفي فهو نقاش يعبر حقيقة هم مدرس الفلسفة و هو هم ايجابي يتم فيه التعبير عن مدى الاعتزاز الاستاذي بالانتماء إلى صف مدرسي الفلسفة ، كما انه هم يسعى الكل من خلاله إلى تكوين متعلم قادر على الاستقلال الفكري والوجداني وله الجرأة في الرفض والنقد واتخاد القرار والموقف والدفاع عنه بحجج عقلية ،لكن الأمر لازال يعرف جدالا ابستمولوجيا بين مدرسي الفلسفة في أفق تمرير الفعل التربوي للناشئة المتعلمة ’ في سياق الدرس الفلسفي نجد ان هناك فريق ينتصر للبيداغوجيا و فريق ينتصر إلى الحفاظ على نقاء وصفاء الفلسفة من أي تدخل بيداغوجي تربوي ديداكتيكي ما دامت تحمل بيداغوجيتها الخاصة ومن هذا المنطلق تأتي أهمية التساؤل التالي : ما غاية التربية في أفق الدرس الفلسفي ؟ وما دور المدرس في رهان الفعل التربوي ؟
إن الحوار البيداغوجي بين مدرسي الفلسفة و بيداغوجية الفلسفة لم يأتي من عدم بقدر ما هو استثمار وتطوير للأسس النظرية والمفهومية التي أبدعها المؤسسون الأوائل لفن التربية وتدريس الفلسفة خاصة النقاش الذي أسس له الفيلسوف الألماني امانويل كانط ” إننا لا نعلم الفلسفة بقدر ما نعلم التفلسف” وقد عمل كانط بفلسفته النقدية في القرن 18 قرن النقد الأوروبي بتعبير هابر ماس ،على بلورة فكرة عقلنة العقل التربوي وإخراجه من ظلمات الميتافيزيقا ووضعه موضع نقد المعارف ،فقد دعي كانط في كتابه نقد ” العقل الخالص” وهو ينتقد عقم التعليم المدرسي السائد في عصره إلى عقلنة الأساليب التربوية الموظفة في التربية المدرسية ، لكي تصير تربية فاعلة قادرة على إنتاج إنسان أكثر منه مفعول به ويقول كانط في هذا السياق ” ينبغي أن يصبح فن التربية معقولا ومنظما إذا وجب عليه تنمية الطبيعة البشرية المتمثلة في مرحلة الطفولة مثقلة بعبئ التقاليد والتبعية ” أو كما يشير ديكارت في محاورته المعنونة بالبحث عن الحقيقة بواسطة العقل قائلا ” ان الإنسان يولد في حالة جهل وكل معارفه تكون مغلوطة و مشحونة ،أما طبيعتنا البشرية فهي طبيعة إن أخطأت فذلك راجع لاستعمالنا الخاطئ لعقلنا أو لحريتنا ” وللتحرر من هذا التقليد يؤكد كانط على ضرورة ان تتحول التربية إلى دراسة علمية ، فداخل فن التربية تتحول إلية التربية الى علم وبدون ذلك لن يصبح فن التربية ابدا فعلا مقننا ومتما سكا وسيصبح بامكان كل جيل تقويض ما بناه الجيل السابق .
في هذا السياق نستحضر أهمية الإسهام النتشوي في الفعل التربوي من خلال تقويضه لأسس التربية التقليدية التي كان يمارس فيها المربي سيادته من خلال صناعته لمريدين ، يكون له الولاء المطلق والتبعية لكي يطمئن ذاته بقيمة الوجودية ، ومن هذا المنطلق ابتدع فريدريك نيتشه شخصية “زرادشت ” ذلك الشخص الذي يسعى إلى التحرر من كل ما يقيد طموحه في أن يصير الإنسان الأعلى ، فهذه الصورة الجمالية والفنية لفن التربية جعل نيتشه فن الفعل التربوي ينتصر في العمل الإبداعي يعبر من خلاله المربي عن ذاته ولكي يتحقق هذا وجب عليه ان يخلق فضاء ملائما للدرس الفلسفي يحس من خلاله المتعلم بما يسميه نيتشه بالمرح الفلسفي حتى يتمرد التلميذ ضد كل هيمنة المربي و جعله يتخذ الموقف بنفسه دون أن يبحث عن تبرير من أستاذه لموقفه ، و لأجل اكتشاف ذاته و قدراته ذلك أن المبدع يشيد رفاقا له لا جثثا ولا قطعانا وذلك لأنه يسعى إلى إبداع قيم جديدة ، فالمبدع مثله مثل داك المستكشف في جبال الهملايا حر في أن يختار طريقا من بين عدة طرق .
هكذا يمكن القول من خلال هذه الطوطئة الفلسفية للفعل التربوي في أفق الفضاء الفلسفي ،إن الفعل التربوي أصبح فعلا مركبا يقتضي من المدرس بالإضافة إلى ضبط المادة المعرفية التي ينتهي إليها تمللك الأساليب النفسية والاجتماعية للتعامل مع فئة عمرية معينة بالإضافة إلى البحث عن أنجع السبل الديداكتيكية التي تمكن من تنويع المصادر المعرفية للمتعلم وإخراجه من روتينية التلقين و الاسترجاع و يقول الآن في هذا الصدد ” لا تقدم لأي تلميذ في العالم سواء فيما يرى أو يسمع لكن فقط فيما يفعل ” ومن هذا المنطلق نشير إلى دور الأستاذ في رهان تمرير الفعل التربوي للفئات المتعلمة وهذه الممارسة للفعل التربوي لا تخرج عن نطاق المثلث البيداغوحي أو ما عرفت به البيداغوجية المعاصرة بالمثلث الديداكتيكي بين المتعلم والمدرس والمادة المدرسة ، فوضعية المدرس في سياق هذا المثلث الديداكتيكي الذي يخول له تعاقد متفاوض بينه وبين المتعلم ،قد عرفت تغيرا ملحوظا بين ما هو منصوص عليه في التوجيهات الرسمية وبين واقع الدرس الفلسفي وتمرير الفعل التربوي ، فمن خلال الحضور في بعض الندوات حول الدرس الفلسفي و بعض تدخلات الأساتذة من الملاحظ أن كل ماهو منصوص عليه في التوجيهات الرسمية للمادة جعل من المدرس ذلك الأستاذ الذي لم يعد يملك المعرفة كسلطة تجعله في برج عاج ويطلب من التلميذ الصعود إليه دون أن تعطى له آليات المساعدة على الصعود ،بحيث يتحول النظر إلى التلميذ في هذه الحالة كمريد نريد منه أن ينطبع بصورة الأستاذ من خلال تلقي المعرفة وإعادتها إلى أصلها ومن اجل إصدار الحكم على مدى تمللك التعلم و تحقيق الكفايات فالتركيز على تحقيق هذه الأخيرة فقط يجعل من الدرس الفلسفي درسا تقنيا بامتياز ، ويتحول التلميذ إلى مجرد آلة لتحقيق أهداف التعلم وليس اكتسابها داخل الفصل الدراسي ، فالدور الأساسي الذي يجب أن يلعبه المدرس هو دور المعالج أو الطبيب الذي يعمل على تشخيص كل الأمراض التعليمية ذات الارتباط بالثمثلات الاجتماعية التي تحول بين التلميذ والمعرفة المدرسية ،ويجعل من المتعلم يحس بطعم الفعل التربوي والإحساس بتقدير الذات والاعتراف من الآخر لان الاعتراف لا يمكن أن يعطى اعتباطيا بل نيل من خلال تقدير الذات عن القيام بالنشاط . فانخراط ذاتية المتعلم في بناء الدرس الفلسفي تتحول المادة من مستوى تنظيري إلى مستوى نظري تجعل التلميذ يضع صورة الواقع الذي يعيشه أمام أعينه.
خلاصة القول ان الفعل التربوي لا يمكن ان يحدث في ظل الدرس الفلسفي الا من خلال انخراط ذاتية المتعلم في بناء الدرس من جهة ، وتحول المادة المعرفية من مادة مفارقة للتعليمات التربوية الى مادة تجيب عن احتياجات التلميذ الانية واللحظية وخاصة قلقه الوجودي الذي يخلق داخل نفسه بفعل مواجهته لواقع تعلم المتثال له دون ان تكون له القدرة على لمس الاليات والوسائل التي يمكن ان تساعده في التحرر منه بطريقة لينة منظمة عوض مجابهته برفض المطلق الذي يمكن ان يعود عليه سلبا كاقصائه ونعته بنعوت تقلل من قيمته ووجوده ،وهنا يجب على المدرس ابداع الاغواء من خلال جعل المادة تحرر التلميذ من كل القيود و يستمتع بالمادة المدرسة فحسب فوكولت لا يمكن تعلم شيء بدون اغواء .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى