رأي/ كرونيك

هل ستقبل الدولة التعايش مع العزوف..وهجر صناديق الاقتراع بشكل مفزع؟

في المسار الديمقراطي ، يعتبر احترام مواعيد الاستحقاقات الانتخابية أبرز مؤشرات تبني السلطة السياسية للخيار الديمقراطي. لقد بات هذا الأمر من المبادئ المؤسسة و من بديهيات كل صيغ الأنظمة التمثيلية، منذ عصبة أمم آيروكواس التي استلهمت منها الثورات الكبرى و حتى الآن .تحول هذا الفهم، أو كاد، إلى حقيقة مطلقة في نظام مبني، نظريا، على رفض الإطلاقية، حتى أصبح فرضية، لدى الحاملين للمشاريع الديمقراطية، لا تحتمل أي نقاش و أية مسائلة و أي تناول نقدي مهما كانت الظروف و التحولات و المخاوف .

إن سقوط الفكر الديمقراطي في هكذا نمطية لهو ، في اعتقادنا ، أحد أبرز ملامح تراجع العمق الفكري في الممارسة السياسية في بلادنا و في العالم من حولنا ، منذ انتقال إدارة قضايا العالم و الدول و الشعوب من شأن لحقول المعرفة العلمية و التحليل العميق و التفكير الاستراتيجي ، إلى مجال حصري على الحسابات السياسية و الجيوسياسية التي لا ترى سوى مصالح اللوبيات .

من واجبنا طرح العديد من الأسئلة على الدولة و الحكومة و النخب و هي تغيب العديد من المعطيات و الإكراهات و الوقائع الناطقة باللون الأحمر ، و كأن كل ما يفيد انتقالنا نحو الديمقراطية هو أجندة انتخابات 2021، دون اكتراث بقلق اجتماعي تحدث في الريف و جرادة و الوطن و دون أخذ تداعيات وباء عالمي على محمل الجد و دون انتباه لاستعداد الناس، المعلن، عن معاقبة الفاعلين السياسيين ، عبر هجر صناديق الاقتراع بشكل مفزع ، و دون تعاط مع أرقام الفقر و الهشاشة و العطالة و دون انكباب علم الاجتماع على نسب الطلاق و النزاعات العائلية و العنوسة و الجرائم و الإدمان و السكيزوفرينيا و العديد من الظواهر التي تصادر كل فرص نهوض المجتمع في اتجاه التقدم ، أمام أنظار و صمت الجميع .

المثقفون ، الذين قلبهم على البلاد و التنمية و حقوق الناس و قيمة الإنسان في معادلات العالم ، يتحدثون في مثل هذه المنعطفات و المصالحات تعقد في هكذا أزمات و الإبداع في الأدب و الفن و الفلسفة و السياسة و العلاقات الدولية يرقى عندما يكون الناس ، كما هم الآن ، في حاجة إلى جرعات قوية من الأمل.

لقد اختزلت أحزابنا السياسية القضايا العميقة للمجتمع و المعضلات العالقة و الطارئة للبلاد على كل الأصعدة الاقتصادية و الاجتماعية و القيمية ، اختزلت كل ذلك في سباقها المحموم نحو الأغلبيات في المؤسسات المنتخبة حتى صار اهتمامها هو كل شيء ، إلا أوجاع و انتظارات المواطنين بكل فئاتهم .

ورغم ما أكدته جائحة كوفيد -19 من اختلالات بنيوية في النموذج التنموي المعتمد مدة عقود و في مقاربة الاستثمار و من عدم قدرة الميزانية العامة على تحمل ولوج المواطنين إلى الخدمات الأساسية في الصحة و التعليم و من هشاشة منظومتنا الاجتماعية ، رغم كل هذا ، لم يخرج اهتمام النخب السياسية عن النقاش التقنوي حول العتبات و التقسيم و القاسم و هلمجرا أشياء لا تشكل أدنى اهتمام ، الآن ، لدى جل المغاربة .

ملك البلاد ، حدد أولويات البلاد في تأمين الوحدة الترابية و إنتاج الثروة و إنجاز متطلبات العدالة الاجتماعية و بناء منظومة اجتماعية كفيلة بضمان التعاضدية و التقاعد و التعويض عن فقدان الشغل و اعتبر هذا الورش الوطني و التنموي و الاجتماعي مطروحا للإنجاز خلال الخمس سنوات المقبلة . الأمر ، كما يبدو واضحا ، تعزيز لمركزية الحقوق الترابية للمغرب في جدول أعمال الدولة و إعلان عن تصدر القضية الاجتماعية جدول أعمال الانتقال نحو الديمقراطية .

سنكون في حاجة ، طبعا ، إلى ذروة الوحدة الوطنية و تعبئة الموارد و الكثير من الإيثار .و سنكون في حاجة إلى نخب تنسى الامتيازات ليتسنى انتقالنا إلى لحظة تاريخية تتجاوز إعلان النوايا و المبادئ و تبلغ تصورا يجمع ما بين مصالح كل الفئات و المصالح العليا للوطن .

إنه لمن دواعي الامتعاض أن تبقى نخبنا أسيرة منطق كلاسيكي ، يظن أن الواجب الدستوري و السياسي و الأخلاقي اتجاه الوطن و الناس ، يقتصر على عقد اجتماعات القيادات و إصدار البلاغات و ترقب العد العكسي للانتخابات .تعقيدات مراحل الانتقال و تطورات ملف الصحراء و ضعف الناتج الداخلي الخام و الوضع الاجتماعي العام ، أمور تستدعي قوى فكرية و سياسية و إجتماعية و اقتراحية ذات رؤى و آراء ثورية لتستطيع أن تكون جديرة بالتوافق مع المؤسسة الملكية و بثقة الناس من جديد.

المغرب الذي أنجب أبراهام السرفاتي و عزيز بلال و عبد الرحيم بوعبيد و كارزمات سياسية من العيار الثقيل أتقنت فنون التخطيط الاقتصادي الاستراتيجي. و المغرب الذي من أبنائه البررة عبد اللطيف الجواهري و مصطفى التراب و إدريس جطو و كفاءات تقنقراطية خبرت جيدا دروب السياسة و تدبير الشأن العام. هذا المغرب قادر على التنقيب عن المؤهلات و المؤهلون الجديرون بإدارة المرحلة.

لا أحد نسي ما أحدثه ضعف المشاركة الشعبية في انتخابات شتنبر 2007 من إرباك و ما أدى إليه من قرارات ما زالت تداعياتها السلبية ترخي بظلالها حتى الآن . لذلك فإن سؤال لماذا نذهب قدما نحو مأزق آخر في ظرف أصعب و أخطر دون إعمال العقل الاستراتيجى و الاتفاق على أن مصلحة البلاد تفرض، هنا و الآن ، حكومة إئتلاف وطني من كفاءات كل القوى التي تجمع بين الميولات الليبرالية و النزوع نحو دولة الرعاية الاجتماعية ، سيكون السؤال مشروعا خاصة أنه لم يبذل أي جهذ لتهييء ظروف إقناع الناخبين بالذهاب إلى صناديق الاقتراع و بالقيمة الحيوية للمشاركة الشعبية في الاستحقاقات .

 

سيجد القائمون على احترام الدستور ، دون شك ، المخرج حتى يتخذ قرار استثنائي يتناسب ووضع استثنائي لمواجهة تحديات استثنائية ، تحديات لن تمهلنا كثيرا و لن تقبل البطئ و التردد و هواجس المصالح الضيقة ، بكل تأكيد .
لو كانت القوى المحسوبة على التوجه الديمقراطي و تلك المتبنية للخيار الليبيرالي جاهزة لإقناع الناخبين بالمشاركة المكثفة و بتصويت يحررنا من سياق و نتائج 25 نونبر 2011 ، لكنا نتحدث عن أية تحالفات تخدم الأجندة الاقتصادية والاجتماعية و الوطنية و طموحات المغاربة في عيش كريم.

و الحالة ليست كذلك ، فلنتحمل مسؤولياتنا كاملة في الدعوة لحكومة ائتلاف وطني ، استرجاع عافية اقتصادنا في أمس الحاجة إليها و التأسيس و التأصيل لنموذج تنموي ينتج الثروة و يجد آليات توزيعها العادل في أمس الحاجة إليها و قضية وحدتنا الترابية في أمس الحاجة إليها و صيانة وحدتنا الوطنية في أمس الحاجة إليها و مجابهة الوباء و انعكاساته المنهكة للغاية في أمس الحاجة إليها.

أكيد أن هذا الرأي سيبدو نشازا أمام مسار المشاورات بين الأحزاب ووزارة الداخلية. و أكيد أن هناك من سيشهر ورقة الانتخابات الأمريكية و مراقبة الاتحاد الأوروبي لانتقالنا الديمقراطي ، إلا أن ما يجب أن يسترعي اهتمامنا أكثر هو عدم ترك فرص التعايش مع العزوف و مع خريطة أتت بها مفاجئات التاريخ تدوم طويلا .
تلك هي القضية .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى