رأي/ كرونيكسياسة

حرب الرموز الكبرى في السياسة أسرار.. لقاء الحسن الثاني وبومدين الذي لم يكتب له أن يحدث هنا

كان بيرتراند راسل يردد دوما “إن مشكلة هذا العالم تكمن في أن الحمقى والمتعصبين دائماً ما يشعرون بالثقة في أنفسهم، أمّا العقلاء فهم يشكون دائماً في قدراتهم!” نحس أن هذا ما يحدث اليوم في العلاقة بين المغرب والجزائر، فقد كبر الصراع وصغر اللاعبون، لم يكن هناك أي ود بين الحسن الثاني وهواري بومدين، لكن في عمق الصراع، كان هناك تقدير كبير للشعبين، وبين الملك والرئيس، كان اللعب كبيرا برجالات كبار أيضا، على خلاف ما يحدث اليوم، “اللعب صغار جدا” لعل هذا نفسه ما ورد في الخطاب الملكي الأخير بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء حين تحدث عن “الأفعال الصبيانية”..

بقلم عبدالعزيز كوكاس

برغم كل التطاحنات، كان الزعيمان يتصارعان بذكاء وبرمزيات عالية جدا، وظل تقدير كل واحد منهما للآخر حاضرا في أعز لحظات الصراع، ولننصت إلى ما قاله المرحوم الحسن الثاني للصحافي إريك لوران في “مذكرات ملك” عن رحيل بومدين: “قلت لبعض المقربين عقب موته: كنا نتعارك كثيراً وتبارزنا وتسابقنا للتفوق على رقعة الشطرنج، حتى إننا مع وجود الفارق كدنا نشبه الثنائي الذي شكله في الماضي “شارل كونت” و”فرونسوا الأول”، ثم قلت: سبحان الله، إن الأول الذي توفي خلق فراغا لدى الآخر..

إنني أحسست بفراغ بعد موت بومدين لأن كلانا اعتاد أن ينظر إلى الآخر ويقول مجاملا: “مرحى، لقد سجلت هدفاً عليّ”، ومع ذلك كادت الأمور تتطور إلى ما لا تحمد عقباه، وقد أسر للبعض: “لو كنت أعرف أن المغرب كان سيصمد هذه السنين الثلاث في الصحراء ما كنت لأغامر في هذه القضية”.

وحين سأله لوران عن أول لقاء له ببومدين بعد وصوله للحكم، قال الحسن الثاني بحكمة الكبار: “لا أذكر تاريخ اللقاء بالضبط، لكني وجدته رجلاً صعب المراس نوعاً ما ويعسر فهمه، أقول هذا بعد مرور كل هذا الوقت، لقد كان متحفظاً جداً، حذراً منطوياً على نفسه قليل الانشراح، ومع مرور الأعوام قامت بيننا مودة وصداقة وتبادلنا النكت واللعب “بالكلمات”، كان شخصا تثير نوعية مزاجه الاهتمام، ويفرض دوما على مخاطبه جهدا لفك ألغاز كلامه”.

هناك الكثير من المحكيات في مذكرات زعماء الجزائر الذين كانوا مقربين من بومدين تؤكد أن الرئيس بوخروبة كان مفتونا برسائل وخطابات الحسن الثاني، وكان في لحظات الصفاء الذهني يقر بذكاء الملك الراحل وقوة شخصيته السياسية.. رغم أن كل واحد منهما كان يفكر في إسقاط الآخر، لكن العظماء يظلون كبارا حتى في أخطائهم.

ألغاز اللقاء الذي لم يحدث هنا بين الزعيمين

كان الملك الراحل الحسن الثاني مولعا ببعد الرموز في السياسة، داعب هواري بومدين أكثر من مرة برسائل مشفرة، ورد الرئيس الجزائري بمثلها، وتبادل الزعيمان لعبة التنس في صراع الرموز الذي أتقناه، واستمر الحسن الثاني في تقديم الرسائل الرمزية حتى بعد رحيل هواري بومدين، مثل ما حدث أثناء عودة الدفء في نهاية الثمانينيات لمفاصل العلاقة بين الجارين الشقيقين، حين قام الملك الراحل بزيارة الجزائر بعد قطيعة طويلة، حين قال للشاذلي بن جديد لحظة استقباله: “الحمد لله، ها أنا قد عشت لأحضر أولادي معي، حتى إذا حدث – لا قدر الله- أمر فسأكون مطمئنا على مستقبلهم وسيكونون أولادك”! وقد روى الشاذلي بن جديد هذه المجاملة الملكية بإعجاب، ولكن لم يتم التقاط الإشارات البعيدة الدلالة فيها.

ومن هذه الرسائل المشفرة ذات الكثافة الرمزية، حادث اللقاء الشهير الذي لم يتم بين الراحلين. فقد بعث الملك الراحل صديقه ومستشاره أحمد رضا اكديرة إلى الجزائر يحمل له رسالة سرية، مضمونها ترتيب لقاء بمدريد أو بأي بلد أوربي لتبديد الغيوم، قال المبعوث السري باسم الملك المغربي لهواري بومدين: “يقول لك جلالة الملك إننا إذا لم نلتق هذه المرة هنا فسنلتقي هناك”..

لم يفهم بومدين حينها الرسالة المشفرة للحسن الثاني، ماذا يقصد بهذه العبارة الشرطية إن لم نلتق هنا فسنلتقي هناك؟ وفي رواية العديد من الزعماء الجزائريين الذين كانوا مقربين من “الرييس”، “إن لم نلتق هذه المرة فلن نلتقي أبدا”، هل يقصد الحسن الثاني شن حرب على الجزائر إذا لم يتم اللقاء أو يعد لانقلاب ضد نظام بوخروبة؟

لم يكن هواري بومدين يعرف أن الملك الراحل كان على اطلاع على تفاصيل ملفه الطبي وأنه مهدد بالموت، وأن مؤدى الرسالة الرمزية: “هذه آخر فرصة للقاء بيننا لتبديد الصراع وفتح صفحة جديدة”..

الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين

عدم اكتفاء هواري بومدين بظاهر كلام الحسن الثاني وهو سيد الألغاز في السياسة، وبحثه عن الرمزيات المختبئة في رسالة الملك، كانت قد اتخذت أبعادا كبيرة في الجزائر بعد موت هواري بومدين، حيث وجه البعض تهمة قتله إلى الملك الراحل بناء على ما ورد في رسالته إلى بومدين، لولا أن ظهرت روايات متعددة حول موت الرئيس الجزائري، آخرها ما نشرته مجلة “روز اليوسف” في عددها 3524، في 25 ديسمبر 1995 في حوار للصحافي عادل حمودة نائب رئيس تحرير المجلة مع وزير الدفاع السوري العماد الأول “مصطفى طلاس”، حيث قال: “الحقيقة أن صدام حسين نحر الفكر القومي، وأكثر من ذلك وضع السم للرئيس بومدين بعد أن هدده بكشف خبايا اتفاق الجزائر”، وهو ما لم يقم عليه دليل وكان الأمر أشبه بالتخمينات التي ولدها الصراع بين بعثيي العراق وسوريا.

الفقيه محمد البصري وعبدالله إبراهيم

يحكي الفقيه البصري في مذكراته، ما حدث له مع هواري بومدين بخصوص مضمون رسالة الحسن الثاني المشفرة، كشاهد عيان إذ كان من الأشخاص الذين التقاهم بومدين لمعرفة أبعاد العبارة الملغزة التي بعث بها إليه الحسن الثاني، يقول: “كان يتم تحضير لقاء بين بومدين وجلالة الملك، وكان مدير المخابرات الجزائري قاصدي مرباح والدكتور الطالب الإبراهيمي هما اللذان تكفلا بالتحضيرات على أساس عقد اللقاء في بروكسيل. في تلك الأثناء وقبل أن يُعرف مرض بومدين، أنجز الأطباء تقريرا طبيا توصل به الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان. وظهر منه أنه من المستحيل أن ينفلت بومدين من الموت، فالأمر يتعلق بسرطان الدم.

والظاهر أن محتوى التقرير توصلت به الجهات العليا في المغرب، أو هكذا فهم الأمر عندما استقبل الملك المبعوثين الجزائريين آنذاك. مرباح والإبراهيمي وقال لهما: “قولا لبومدين إذا لم يقدر الله أن نلتقي فسنلتقي إذن يوم القيامة”، وتلقت الجزائر هذه الرسالة بقلق وركام من الأسئلة حول ما إذا كان المغرب بصدد تحضير شيء ما ضد الجزائر..

استدعاني بومدين آنذاك وطرح علي السؤال: ما المقصود من هذا الكلام في المغرب؟ أجبته: ربما كان نتيجة تراكم الخيبات من العلاقات المغربية الجزائرية، فكم تم تحضير مثل هذه اللقاءات ولم تنجح. وبالتالي، فإن تعبير الملك يعني أنه إذا لم تنجح هذه الفرصة فلن يبق أمامنا أفق للاستمرار في الخيبات.. واتضح فيما بعد أن الملك كان على علم بالمعطيات الصحية الخاصة بالرئيس الجزائري. وأكد لي ذلك اليحياوي حين كان آنذاك أمينا عاما لجبهة التحرير الجزائرية. كان مع بومدين في السيارة متوجهين إلى وهران حين بادره الرئيس بالسؤال “الذي حيره” حول ما إذا كان “المغرب يحضر شيئا ما ضد الجزائر”، وإذا كانت هناك قوى أخرى وراء ذلك.. وظل الرجلان وهما في الطريق، يحاولان تأويل الجملة التي خاطب بها الملك المبعوثين الجزائريين ولم يتضح الأمر إلا فيما بعد” (“الفقيه: كتاب العبرة والوفاء، حوار سيرة ذاتية” حسن نجمي. ص 170-171).

اليوم تغيرت المعطيات، جاء ملك جديد إلى الحكم بالمغرب، ويداه غير مثقلتين بإرث الماضي، وحاول أن يفتح الأحضان اتجاه حكام الجزائر التي زارها لحظة توليه مقاليد العرش، ووجه في أكثر من خطاب دعوة لفتح الحدود، بل اتخذ مبادرة أحادية الجانب برفع التأشيرة عن الجزائريين، لكن في الجهة الأخرى ظل الصد قائما ومقابله اللعب الصغير في المربعات الضيقة لرقعة شطرنج تغيرت الكثير من معالمها، بل تم إنزال الصراع إلى الحضيض، ولو أن التنافس حول ريادة المنطقة لم يعد حول من يمسك ملعقة إذابة السكر بل فقط حول من يديرها، لأن القوى العالمية الكبرى بعد 11 شتنبر حتمت واقعا جديدا، وها هي كورونا تفرض تحولات أكثر عمقا قادمة بقوة..

وإذا لم تعد الحاجة اليوم في السياسة، قائمة على هذه الرمزيات الكبرى التي تفترض ثقافة عميقة وذكاء ملغزا وحتى السياق التاريخي لا يفرضها، فإن الوضوح ووضع المصالح العليا للبلدين الشقيقين بميزان لا غالب ولا مغلوب أضحى يفرض نفسه بقوة لما فيه مصلحة الجزائر والمغرب، ومصالح المنطقة ككل.. فهل ينتصر العقل بدل الغريزة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى