رأي/ كرونيك

العفو عن الزفزافي ورفاقه… العيد المؤجل

حين كنت أتابع حراك الريف… لم أكن أبدا محايدا لا على مستوى الوجداني ولا العقلي…

الرجل كان يصيب أحيانا ويخطئ أحيانا أخرى…
من منا من لا يطمح في مجتمع تسوده الكرامة والحق في الصحة والتعليم والحق في العمل…؟
من منا لا يغضب لعدم وجود سكانير في المستشفى…؟
من منا لا يغضب لموت رخيص لمصاب بالسرطان على عتبات مستشفيات معطلة..؟
من منا لا يغضب من الإفلات من العقاب للمجرمين والقتلة والفاسدين و الجلادين..؟
فالمحايدون جبناء أومتربصون بالغنيمة… أو يؤجلون الموقف حتى يتوج القوي… فخصلة العبيد الجدد خدمة القوي بالعري الفاضح..

بقلم الصحافي والروائي خالد أخازي

فالريف الجريح جزء من وطني… وهويتي وقضيتي..
وقطعة ذهبية غالية من تاريخي الذي أفخر به، وأعتبر الخطابي اسما قويا بين ضلوعي وأنا أتصفع الحضارة الإنسانية…
الخطابي مغربي… كما هو بنبركة و علال بن عبدالله والزرقطوني..
الحقيقة أن الزفزافي… كان أحيانا يشعرني بقوة القائد الجماهيري القادر على التعبئة لكني في كثير من الأحيانا كنت أغادر قضيته جريحا…
هل كنت لأفهم الرجل وهو يطالب بالتفاوض المباشر مع الملك…؟
ماذا كان سيجني من ذلك.. وهو يعلم أن الملوك ملوك، ويطلب المستحيل، وطلبه طبقا للتقاليد المخزنية من الخيال العلمي…؟
فالزفزافي… الذي خاطب الجماهير بالأمازيغية، كان يخاطبني أيضا… كنت واحدا ممن عانوا من القهرة والحكرة والتهميش في قلب الدار البيضاء…
لكني خاصمت النظام وليس الوطن…
كنت قاسيا على الدولة وليس على الوطن..
الزفزافي الذي كان يتحول خطيبا إسلامويا يستشهد بالسنة والقرآن، كان يبدو لي شعبويا، يدغدغ مشاعر المحافظين من أهل الريف الجريح.. كان الدين في كثير من الأحيان صهوة جواده المفضلة…
دين عقبة بن نافع… وعمرو بن العاص…. وكل المخنثين من بني أمية… والمكبوثين من بني العباس…
وحين كان يطرح القضايا الاجتماعية والاقتصادية بحماس، كان أقرب إلى اليسار من اليمين.. ثم ليبراليا جامحا… وفي كثير من الأحيان فوضويا بالمفهوم الوجودي والفلسفي..
وحين كان يطالب بالحرية والمساواة والعدالة والصحة والتعليم والتوزيع العادل للثروة ومحاسبة الفساد والريع والجلادين والقتلة..
كان نحن… وكنا هو… بلا إيديولوجية ولا مرجعية…
لهذا خسر الإسلاموين….
وخسر اليسار…
وخسر اليمين…
لم يكن زعيما أبدا… أوهموه وقدموه حطبا لصراع خفي…
لم يكن زعيما… كان مناضلا حثما.. لكن يفتقد إلى استراتيجيات الزعامة والقيادة..
القيادة تحالف وتفاوض وهدنة وكر وفر… لا شر مستمر… ولا تمرد يحرق الأخضر واليابس..
كان رجلا بلا إيديولوجية، مغربيا بمطالب اجتماعية واقتصادية وإنسانية … يتحدث بمشاعر صادقة لكن لا يلجمها العقل الاستراتيجي…

كان مغربيا مجروحا في كرامته وكبريائه..
الزعامة ليس عفوية كل العفوية، ولا عقلانية كل العقلانية، إنها هنا وهناك حسب مواقع القوة…
لكنه… في لحظة حماس… قال بغرابة ” الاستعمار الإسباني أهون علينا من الاستعمار العروبي”..
أحقا… يصدق هذا على زعيم حصد بقولة خصومة تمتد نارها إلى حيث لا يدري…؟
ابتعد الزفزافي عني بعيدا، وصرت في عينيه خصما، وتركة من تركة الغزو العربي، وغدوت غريبا عنه، وغدت اسبانيا حليفته التاريخية، وهو الذي يستشهد بمرجعية الغزاة، و دخل مسجدهم في الحادثة المشهورة…
اسبانيا التي حرقت وأبادت واستعبدت ونكلت…
صارت أيقونة في العقل الزفزافي…
وصارت أمة14 قرنا… التي قادت دفتهافي أكثر الأحيان أسر أمازيغية… بلا تاريخ غير اليد البيضاء لأسبانيا فرانكو التي أعدمت شاعر الحرية لوركا… لوركا يا صديقي…ذات فجر… على عمود بارد إلا من دفء أصله شجرة من شجرة وطنه…
لنقل إنها زلة لسان، والحماسة لا تنقص من وطنية الزفزافي الذي ردد أكثر من مرة أنه وطني وحدوي…
تزداد حماسة الزفزافي، حين يخاطب الجماهير متهما الجيش المغربي المرابط بالصحراء من أجل كرامتنا وعزتنا بالهروب من البوليساريو والمجيء عند أسيادهم…
لنكن صادقين… أهذا كلام يقوله عاقل…؟
لم يعد هنا الزفزافي ينتمي إلا إلى نفسه لحظتها ومن يحمل هذا الخطاب المؤلم الذي أصابنا بالحيرة والوجع…
مثل هذا الخطاب عزل الزفزافي… وجعله بعيدا كل البعد عن الهم المغربي…
لو كتب مسودة لخطابه ما قال ذلك…
الزفزافي لا يفكر هكذا…
لكن الجماهير تصنع الجنون بالخطيب…
ما هكذا يكون الزعيم يا وطني….؟
لن أخونه …. حاشا….
فالزفزافي…. أوهموه وتركوه…
لن أقول إنه يخدم أجندة أجنبية..
لن أقول إنه لسان الانفصاليين في الخارج…
أقول فقط… إنه الضحية…
فالرجل لم يكن زعيما…

فالشاب المتحمس كان يتكلم بلسان الجرح الريفي حتى خسر القضية بالضربة القاضية العمياء..
كان خطيبا مفوها… فحسب

الزعماء يجيدون حرب المواقع، وتدبير التحالفات…
الزفزافي.. كان كلما تكلم خسر اليسار واليمين المحافظين و أوجع المغاربة العرب….
وخسر الجيش …حين أهانه وفيهم الأمازيغي والعربي… وكل الأطياف… خسره وهو يصفه بالجبان… وهو المرابط دوما من أجل الكرامة…
الجيش المغربي… مدرسة في الشجاعة والتضحية والولاء للوطن… وتاريخه كاف ليلجم لسان أرعن لا يعرف قيمة مؤسسة بلاده العسكرية ورجالها ونساءها البواسل…
هل هو مستعد للنقد الذاتي… والإعتراف أن جهة ما أوهمته أنه زعيم…؟
هل مستعد للخروج من الوهم لمعانقة قضايا وطنه مغربيا حرا فخورا بتاريخه ورجاله ونسائه…؟
وهل كلام الحمقى مثل كلام زيان يؤخذ على الجد…؟
ليست الزعامة خطابة فقط، إنها تدبير للتحالفات والمفاوصات… فأي زعيم في العالم يرفض الجلوس إلى طاولة المفاوضات…!؟
مناسبة هذا القول هو حزني على عدم طي الملف الحقوقي.. والسياسي بعفو شامل، فالذين وراء القضبان ليسوا بالخطورة التي تعتقدون…


فبقاء الزفزافي وأمثاله في الزنازين، لا يخدم أي قضية
بقاؤهم تهمة دولية لاغير، ومصيدة للمستقبل والحاضر المغربي..
كل نقاش حول الجزاء والعقاب والفعل الإجرامي ومنظومة العدالة هو نقاش غير جوهري….
قضية الزفزافي ورفاقه قضية إنسانية..
إنسانية بكل المقايييس
والباقي مجرد تفاصيل مملة..
فدعونا نفرح مرتين..
مهما اختلفنا معه منهجيا ورؤية
قضية الزفزافي جزء من ظاهر من جرح تاريخي عميق خفي…
يؤلم في صمت… لا تمنحوا الأعداء مزيدا من الحطب…
وحجة لتأجبج الأحقاد و الصغائن…!
الشمال عامة ظلم تاريخيا…
همش اجتماعيا واقتصاديا…
ونتج عن ذلك جيل حاقد من الأوضاع، مع سجل تاريخي شفوي حول الريف الصامد دوما… المظلوم تاريخيا..
الزفزافي ورفاقه مغاربة… لهم أمهات يبكين غيابهم كما تبكي كل الأمهات…
لهم آباء… في لحظة يأس… يرتمون في أحضان الجحيم…
من أجل الأبناء قد تعمى البصائر، فيقودنا اليأس إلى أن نسيء للوطن وللتاريخ…
لكن… العفو هذا جوهره….
أن تفهم أبناءك حتى في زلاتهم… وتغفر لهم…
ليكون العيد كاملا…

عيدا حقيقيا تشعل شموعه في الريف الجريح..
بقاؤهم يعمق جرح الريف ويجهض آمال مغرب متحرر من ماض مؤلم…
بقاؤهم مهما اختلفنا معهم يعمق الأحقاد والضغائن…
العفو الشامل لا يعني أن الدولة تنازلت… بل يعني أن المغرب غفور رحيم بأبنائه وبناته… وأن القيم انتصرت على العقاب.
العفو الشامل يعني انتصار روح المصالحة والإنصاف و تصالح الدولة مع جوهرها الأبوي، وطي صفحة سوء الفهم، وتفويتا ذكيا على الخصوم الاستغلال السياسوي لملف طيه بأيدينا…
ليس القضية مرتطبة بكسر عظام، ودفع أحد للاستسلام حد الموت…
بل القضية أكبر من ذلك..
ولا يجب أن يدبر بالأحقاد ولا بالحسابات الضيقة…
هذا الملف يحتاج إلى حكماء، يعرفون أن عدم الانفراج السياسي والحقوقي بالمغرب، هو إضعاف للجبهة الداخلية، وحطب لنار الحقد الخارجية…و صناعة للوهم وتزكيته..

الزفزافي مهما اختلفنا معه لا يمكن أن نختلف الساعة حول مصالح المغرب…
ومصالح المغرب الساعة في طي هذا الملف..
وفي تبديد سوء التفاهم التاريخي بين الدولة والريف إلى الأبد…
في سد الطريق على الاستغلال السياسوي للوضعط الاجتماعي والاقتصادي للشمال في قضايا لا وطنية…
الإفراج عن الزفزافي وزملائه وكل المعتقلين ليس فيه ما يحرج أي طرف، بل يحرج فقط من راهنوا على التصعيد للإرباك…
لا يدار هذا الملف بحرب الأعصاب، وانتظار من يرفع الراية البيضاء أولا..
الإفراج عن الزفزافي… والعفو الشامل… مناعة للدولة من الداخل والخارج…
دوعونا ن نَعِشْ عيدا ثانيا…. وكفى من صناعة الأوهام…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى