رغم الوعود المتكررة بإصلاح المنظومة الصحية وتعزيز مقومات “الدولة الاجتماعية“، تتزايد المؤشرات التي تكشف عن واقع مغاير في عدد من المستشفيات العمومية، وعلى رأسها المستشفى الجامعي ابن سينا بالرباط، الذي أضحى اليوم في قلب عاصفة من الانتقادات والاتهامات بسوء التدبير المالي والإداري والتقني، وسط مطالب نقابية بفتح تحقيق رسمي من قبل وزارة الصحة والمجلس الأعلى للحسابات.
الصفقات وتجهيز المستشفى: قصة استثمارات تتصدع قبل أن تُستغل
تشير المعطيات إلى أن استثمارات تفوق 6 مليارات درهم خُصصت لتجهيز المركبات الأربعة التابعة للمستشفى، وهي: المركب الكبير للمصالح الاستشفائية، مركب أمراض القلب والشرايين، مركب الدعم الذي يضم المختبرات والأشعة والفحوصات الخارجية، والمركب الجراحي والإنعاش.
لكن، وبحسب المكتب النقابي المحلي التابع للاتحاد المغربي للشغل، فإن هذه الاستثمارات لم تنعكس إيجابًا على جودة الخدمات، بل رافقتها “اختلالات عميقة” في تدبير المعدات والصفقات العمومية.
كما أشارت النقابة إلى ما وصفته بـ”سوء التدبير وتراكم الاختلالات المالية والإدارية والتقنية”، مطالبة بإجراء افتحاص شامل لمجمل الصفقات التي تم تنفيذها في إطار مشاريع التجهيز والبناء والصيانة، وخاصة بعد بروز مؤشرات قوية على وجود تجاوزات واضحة في طرق تدبير الموارد.
بناية SAMU… منشأة حديثة مهددة بالانهيار
من أبرز النقاط المثيرة للجدل، ما كشفت عنه النقابة بخصوص بناية وحدة التدخل الطبي المستعجل SAMU، التي تم إفراغها حديثاً بعد ظهور تشققات خطيرة في جدرانها، رغم حداثة بنائها حيث تطرح هذه المعطيات تساؤلات حارقة حول مدى احترام شروط الجودة والسلامة في إنجاز هذه المنشأة، وحول مدى مراقبة وتتبع مراحل بنائها، في ظل الحديث عن شبهة فساد أو تهاون تقني محتمل.
ترميم بالملايير… ومدخل المستعجلات تحت المجهر
كما أثارت النقابة قضية ترميم مدخل مستعجلات مستشفى التخصصات، والتي بلغت تكلفته أزيد من 3 مليارات سنتيم (30 مليون درهم)، وهي كلفة وصفتها بـ”المبالغ فيها”، خاصة وأن المشروع لم يحترم المعايير البيئية المعمول بها، ما يطرح بدوره علامات استفهام حول مدى قانونية دفتر التحملات ومدى تناسب الكلفة مع الأشغال المنجزة فعلياً.
وفي هذا السياق، انتقدت النقابة بشدة لجوء إدارة المستشفى بشكل متزايد إلى ما يسمى بـ”سندات الطلب” بدل الاعتماد على طلبات العروض العمومية، معتبرة أن هذه الممارسة تفتح الباب على مصراعيه أمام الغموض والتبذير في تدبير الصفقات، وتمكن بعض الأطراف من الاستفادة من غياب التنافسية والشفافية.
تبذير على المكاتب… وتجميد للتوظيف بدعوى التقشف
وفي مفارقة مثيرة، أبرزت النقابة أن الإدارة قامت بتجهيز عدد من المكاتب والمرافق بميزانيات ضخمة، في وقت يتم فيه تبرير وقف التوظيف بسياق سياسة التقشف. يكرس هذا التناقض، بحسب النقابة حالة من العبث في ترتيب أولويات الإنفاق، ويعكس خللاً عميقاً في الرؤية التدبيرية التي يفترض أن تراعي الحاجيات الحقيقية للمؤسسة ومواردها البشرية.
هدر الموارد المادية والبشرية و مصير مجهول للأجهزة الطبية باهظة
دعت النقابة أيضاً إلى إجراء جرد شامل وتحديد مآل الآليات والمعدات الطبية الثقيلة التي تم اقتناؤها بكلفة مالية مرتفعة، من قبيل أجهزة المختبرات المركزية، أجهزة التصوير بالأشعة، وأجهزة الطب النووي، محذرة من ضياع هذه التجهيزات أو تعطلها بسبب غياب الصيانة أو سوء التخزين والتوزيع.
كما شددت النقابة على أن هذا الجرد يجب أن يشمل جميع التجهيزات التي تم اقتناؤها خلال السنوات الأخيرة، وربطه بتقارير الأداء والخدمة المقدمة، بهدف تقييم النجاعة الحقيقية للصفقات المنجزة ومدى مطابقتها للأهداف الصحية المعلنة.
مغادرة الأطر الطبية… أزمة صامتة تتفاقم
وفي سياق متصل، تحدثت تقارير مهنية عن موجة من مغادرة الأطر الطبية لمستشفى ابن سينا باتجاه القطاع الخاص، بحثاً عن ظروف عمل أفضل، وأجور محفزة، وسط غياب التحفيز داخل المؤسسات العمومية،
يزيد هذا الواقع من تعقيد الوضع، ويضع المستشفى تحت ضغط متزايد، خصوصاً في ظل النقص الحاد في الموارد البشرية، ما يؤثر بشكل مباشر على جودة الخدمات وسرعة الاستجابة للحالات الاستعجالية.
تداعيات على جودة الرعاية: بطء، اكتظاظ وتكلفة اجتماعية عالية
يتحدث المرضى عن مواعيد بعيدة للفحوصات والاستشفاء، خاصة للتشخيصات الضرورية والعلاجات المزمنة، علاوة على التأخر في الفحص الذي يمكن أن يحول الحالات البسيطة إلى معقدة، مع ارتفاع الكلفة الإنسانية والمالية على الطرفين: المواطن والدولة ع) على حد سواء .
كما تبرز النقابة نفاداً متكرراً للأدوية الحيوية وكواشف المختبرات، ما يهدد الأرواح، خصوصاً في حالات أمراض مزمنة أو مستعصية،
هذا الضعف يتناقض مع توجهات السياسة الدوائية الحكومية التي تُعلن عن تخفيض تكلفة الدواء وضمان الولوجية العادلة.
من جهة اخري تشير التقارير إلى أعطاب متكررة في سكانير وأجهزة التصوير النووي وغيرها، مع تأخر الصيانة ما يجعل الأعطال مفاجئة و تستدعي استبدالاً جزئياً أو كاملًا بأموال إضافية مع تعثر عقود الصيانة بسبب ضعف التدبير المالي أو غموض اللجوء إلى شركات صيانة دون معيار شفاف لتركيبات الأسعار والخدمات، ما يولّد حلقة مفرغة من الهدر وشبهات الفساد الإداري.
و بينما تُجمّد توظيف أطر جديدة بحجة التقشف، تُقام حفلات تدشين لشقق وظيفية أو تجهيز مكاتب بتكاليف باهظة، ما يثير السخرية والسخط عند المهنيين الذين يُحمّلون مسؤوليات إضافية بلا مقابل ملموس يحسّن ظروف العمل.
دعوة نقابة للتحقيق والمساءلة
أمام هذه الوضعية، طالبت النقابة وزارة الصحة والحماية الاجتماعية والمجلس الأعلى للحسابات بالتدخل العاجل وفتح تحقيق رسمي وشامل، يهم الصفقات الإدارية والتقنية وكذا طرق تدبير الميزانية، كما دعت إلى إعلان نتائج التحقيقات للرأي العام وربط المسؤولية بالمحاسبة، حفاظاً على المال العام وضماناً للعدالة الصحية، كما طالبت النقابة بتعزيز دعائم الشفافية و ذلك بالتحول الرقمي لمنظومة الصفقات العمومية، و اعتماد بوابة مفتوحة ينشر فيها جميع العروض والمناقصات ونتائجها وتقارير المتابعة الواقعية، مع إشراك المجتمع المدني وناخبين قادرين على المراقبة المباشرة.
القطاع الصحي على المحك
ويأتي هذا الجدل في وقت أعلنت فيه الحكومة عن رفع ميزانية وزارة الصحة إلى أكثر من 32 مليار درهم في مشروع قانون مالية 2025، ما يطرح تساؤلات جدية حول كيفية صرف هذه الميزانية ومدى انعكاسها على أرض الواقع، خاصة في ظل تراكم التقارير التي تتحدث عن ضعف جودة الخدمات، ونقص التجهيزات، وهدر الموارد، وتدهور ثقة المواطن في المستشفى العمومي.
ختاماً، فإن ما يجري في مستشفى ابن سينا اليوم ليس سوى نموذج مصغر لأزمة أعمق يعيشها القطاع الصحي العمومي في المغرب، أزمة تتطلب أكثر من مجرد رصد الميزانيات… إنها بحاجة إلى جرأة سياسية في المحاسبة، وإصلاح جذري في طرق التدبير، وتعاقد شفاف بين الدولة والمواطن يقوم على الكفاءة، النزاهة، والحق في الصحة.