رأي/ كرونيك

محمد حمزة يكتب: تأملات في العلم والديمقراطية و المواطنة

القرن الماضي كان بحق قرن “النهضة” على جميع الأصعدة . علميا جل المفاهيم التي تساعد على رسم الكون أعيد تعريفها كالفضاء , المادة , الزمن, والحتمية ،….العلم و الديمقراطية ازدادا توأمين أكثر من عشرين قرنا، لتحرير الإنسانية من خوف الآلهة ,” ديمقريط ” و ليكريس” إستغاتا بالذرات الأبدية .

ويبقى غليلي رمز البحث الغير القابل للترويض عن الحقيقة العلمية بتجرأه بالقول مع ” كوبرنيك ” و ” كبلر ” بأن الشمس بدل الأرض هي مركز للكون داحضا بذلك ” فيزياء” أرسطو وسيجد نفسه في مواجهة الكنيسة و محاكم التفتيش التي أحرقت ” جيردانو برينو ” حيا.
و على خطى غليلي , فإن المعركة من أجل حرية النقاش العلمي هي التي صنعت العلم الحديث . و كان لابد من ” هارفي ” و باسكال” و ” نيوتن ” و ما ينعتوا بالتجربيين ” لتكتشف الإنسانية كيف تسائل الطبيعة و فهم صياغة الأسئلة ,لإيجاد الأجوبة المؤقتة بدل التأملات أو الإيحالة على ” السلط|” .
العلم و الديمقراطية ازدادا توئمين و تقدما جنبا لجنب . العلم في حاجة حيوية للحرية لأنها هي الماهية نفسها لمعرفة إعادة النظر في يقينياته و تقويم طرق اشتغاله .والديمقراطية المعاصرة في حاجة أيضا للعلم لأن هذا الأخير هو التعبير الأكثر قوة و الأكثر سخاء لروح الإنسانية و يتأسس على المساواة التامة أمام الحقيقة , و يتجاهل الحدود اللغوية و الجنسية و الدينية بين الدول ، و يستبعد الغش و المساومات .العلم مدرسة للصرامة و الصدق و التسامح .
الديمقراطية محتاجة للعلم لأنه قوي و فعال . و هما معا يشكلان البناء الأنبل لإنسانية تائهة داخل هذا الكون الشاسع .فإذا كان العلم عقلنة للنشاط الذهني الإنساني و اكتشافا للواقع القائم و ظواهره كموضوع , فإنه يؤسس لواقع ممكن و محتمل , أي البحث عن حقيقة نسبية .
العلماء يتحاشون الحديث عن الحقيقة لأنها مشحونة بالأوهام . فالأساسي ليس أن يكون خطابنا حقيقة بل ان يكون منسجما و صادقا و أصيلا .
العلم معرفة إنسانية تنمو باستمرار, ساهمت في تكوينها كل الأجناس و كل الشعوب , الآشوريون و البابليون (الكتابة)  المصريون القدامى ( العمران و الطب )  الإغريق (الفلسفة و الرياضيات ) الرومان ( الزراعة و الفنون و الهندسة ) المسلمون في المشرق و الغرب الإسلامي ( الفلك, الرياضيات الطب , الملاحة) , الغرب ( الميكانيك , الكهرباء , الفنون , العلوم الاجتماعية , الثورة الصناعية , الثورة المعلوماتية ), و ارتبط تطور العلم بتطور الحضارات و تطور المدنية .
الدولة المدنية تأسست على مركزية العلم الذي أصبح سلطة تساهم إلى جانب السلط الأخرى في توجيه المجتمع لان المجتمعات الحداثية فيها استقلالية نسبية للحقول و الوظائف ، أما المجتمعات ما قبل الحداثة فالتراتبية فيها شرعية و المجتمعات القرسطية وظيفتها زبونية .
إن انتقال مجتمعنا إلى مجتمع العلم و المواطنة يتطلب إسقاط منظومة القيم السائدة : النزوح نحو الرأي الوحيد ، الاحتراز من الاختلاف ، سمو الجماعة على الفرد ،سيادة مفهوم الرعية ، احتقار العمل , تبدير الزمن ، تبدير المال العام و الخاص،توسيع فضاء المقدس ،سيادة العلاقة النفعية ،قهر المراة و الطفل ، تهميش الأقليات ، سيادة الفعل الموسمي و استراتيجيات الساعة ….. و مع منظومة القيم هاته، تبقى المحددات الثقافية الإيديولوجية هي أساس العلاقة مع الآخر . أما قيم المواطنة, فتقتضي أن تكون المصلحة الموضوعية هي أساس العلاقة مع الآخر .

و المنشود هو احترام الاختلاف،و مسؤولية المواطن الفرد ، و تثمين العمل كقيمة محررة ، وصيانة الزمن كرأسمال،المساواة امام القانون ، العلاقات الاجتماعية تبنى على رابطة القانون و المصلحة العامة تعلوا على المصلحة الخاصة و تقليص فضاء المقدس وتوسيع المدني و التدبير العقلاني للمال، و سيادة رابطة القانون واقرار الكرامة الإنسانية والمساواة في الحقوق والواجبات والانتصار لقيم الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان ،و المساواة بين الرجل و المرأة ، و ضمان حقوق الطفل ، و صيانة حقوق الأقليات ، و تدبير و برمجة الفعل ….
المواطنة إذن إنتماء فكري و قانوني إلى الدولة و ليس إنتماءا عرقيا أو دينيا . و الدولة الحداثية العصرية ترى في المواطنين أعضاء متساوين يتمتعون جميعا بحقوق الإنسان بما في ذلك الحقوق الطبيعية , المدنية , السياسية و الاقتصادية تضمنها لهم الدولة .
دخول عصر الحداثة رهين بنشر الثقافة العلمية من خلال إصلاح النظام التعليمي, وتصبح التنمية بهذا المعنى ممكنة لما يصبح العلم ثقافة .
يعد مفهوم ” المواطنة ” بمثابة المدخل الحقيقي لفهم ماهية الديمقراطية و يكفيه ممارستها ,و في الوقت نفسه فإن التربية من أجل الديمقراطية لابد أن تستند على مفهوم واضح للمواطنة و الديمقراطية السياسية تعد مدخلا رئيسيا لمجتمع العلم و المواطنة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى