الرئسيةحول العالم

متحف الصليب الأحمر بجنيف.. ذاكرة لعبثية الحرب

جنيف/ نزار الفراوي (ومع)

على ربوة تقابل مدخل قصر الأمم المتحدة بجنيف، ينتصب مقر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أكبر هيئات العمل الإنساني وقطبها الحيوي. في سفحها أقيم صرح متحفي يحفظ سيرة مغامرة كبرى تبنت رهان الخدمة الإنسانية تحت أقصى ظروف الضغط والخطر. حين لم يهتد العالم إلى أفق للحد من الحرب، كان عليه أن يقبل فكرة التخفيف من الضراوة وحفظ الحد الأدنى من الكرامة والحق في الحياة. ذلك أن القناعة بعبثية الحرب لم تمنع الإنسانية من تكرار تجربة النزيف الدموي، فكان الأجدر أن تتجه همم الرواد إلى أنسنة هذا الجنون العدواني وتحديد مربع لخساراته.

متحف الصليب الأحمر ليس استعراضا للمأساة بقدر ما هو تمجيد لنبل فلسفة التطوع والعمل الإغاثي وتكريم لذكرى من يبذلون حياتهم من أجل إعلاء قيم الإنسانية تحت القصف، وتلطيف نزعة التدمير والخراب المطلق. من الواجهة الزجاجية، يدلف الزائر إلى أجنحة أريد لها، بمتاهاتها الموضوعاتية، وسينوغرافية زواياها الكابوسية، أن تمنح متعة الاكتشاف مقرونة بقلق حول الشرط الإنساني وأسئلة المعنى حول ظاهرة الحرب والعنف والجرائم التي تقترفها البشرية في حق وجودها.

بدأت القصة من معركة سولفيرينو سنة 1959، التي استخلص هنري دونان دروس أهوالها، وصمم على تحويل التزامه بمساعدة جرحى الحروب إلى حركة كونية انطلقت مغامرتها سنة 1863 بتأسيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لكن الرحلة الفلسفية التي يقترحها المتحف تعتنق فكرة الجذور البعيدة لفكرة احترام الإنسان في كل الظروف، والتي تتقاسمها كل الحضارات، الشرقية والغربية، منذ تشريعات حمورابي مرورا بالتشريع الإسلامي وصولا إلى فكر الأنوار.

من العلم الأبيض الذي يتوسطه صليب أحمر، يعود عمره إلى 1870، إلى بذلة متطوع في ساحات الحرب الأفغانية، وثائق شخصية وإدارية، تتوالى قطع وشواهد متنوعة من سيرة العمل الإغاثي الإنساني الذي تقوده أهم منظمة غير حكومية إنسانية، حافظت على مصداقيتها وفرضت على الأرض قيما وأنظمة وممارسات يحتكم إليها الجميع، وإن نقضها البعض على الميدان.

ولعل الجناح الذي يحوي سجلات الأسرى في الحرب العالمية الأولى هو الأكثر وقعا وإثارة لمشاعر الزائر. أدراج تحفظ ستة ملايين بطاقة لسجناء الحرب. عمل أرشيفي ضخم أقرته اليونسكو جزءا من مشروع “ذاكرة العالم”. على طاولات خشبية كلاسيكية الطراز، نماذج حية من رسائل آباء وأمهات تستفسر عن أحوال أبنائها الجنود المختفين أو المسجونين، سجلات تحفظ هوياتهم، شهادات وفاة. أسماء وأسماء، برتبها العسكرية، ومكان وجودها، ومصيرها، بين السجن والاختفاء والوفاة.

في جناح آخر، يعزف لحن لعطش الحرية مع نماذج من مشغولات أنجزها أسرى الحروب، وقدموها هدايا للصليب الأحمر، امتنانا، وإمعانا في الصمود من أجل الحياة والتوق إلى الحرية. إبداعات ضد الوقت، وضد النسيان، ورسائل تعلق بالأمل والعودة إلى العيش الفسيح.

بالصوت، يتاح، في جولة ملبدة بالدهشة والألم، سماع مقاطع من رسائل الأقارب عبر الهواتف الموصولة بالأقمار الصناعية، إلى أبنائهم في معسكرات الأسر، وبالصورة، يتأمل الزائر في وجوه أطفال قضوا في مذابح الجنون العرقي برواندا. بالأبيض والأسود، أم ترفع صورة ابنها المفقود، وبالألوان، طفل شارد يحتج على العالم بصورة والد لم يعد، ويافطة بتوقيعات ضد الهمجية من قلب سيربرينيتشا، شهيدة المدن البوسنية.

يضم المتحف أكبر رصيد من الأفيشات ذات الطابع الإنساني التي علقت على الجدران في مختلف أنحاء العالم من قبل الهيئات المحلية للصليب الأحمر. أقدمها ضمن مجموعة المتحف إعلان يعود إلى 1870 بباريس عن تأسيس جمعية إغاثة الجرحى العسكريين والاعتراف بها من قبل نابليون الثالث كمؤسسة ذات منفعة عامة. بعضها عبارة عن دعوات إلى التطوع أو إعلانات عن تظاهرات إنسانية للتعبئة حول أهداف الحركة.

ثمة رصيد فوتوغرافي ثمين يحكي بصريا تاريخ العمل الإنساني الحديث، على غرار واحدة توثق ورشة للتدريب على الإنقاذ البحري سنة 1917 في “جاكسون فيل” بالولايات المتحدة، أو صورة لمتطوعات في مستشفى بتورينو الإيطالية، سنة 1916. قطع متناثرة من فسيفساء كونية، سافرت من تراب قصصها الإنسانية المحلية لتجتمع في مكان يحفظها تراثا بصريا كونيا.

تاريخ المتحف بدأ مع حفل للذاكرة وتطور تخصيبا لها. كانت أولى المبادرات سنة 1963، وقد مرت مائة عام على تأسيس حركة الصليب الأحمر. وفي 1975، تطوع مندوب للجنة الدولية، لوران مارتي، ليقترح تصورا للمتحف يستعيد المراحل الكبرى للتاريخ الإنساني قبل وبعد تأسيس المنظمة. أطلقت مباراة هندسة المتحف سنة 1979، وتجسد تنظيميا مع ميلاد مؤسسة المتحف الدولي للصليب الأحمر سنة 1981، لكن وضع الحجر الأساس تأخر إلى نونبر 1985، في مناسبة كانت بالغة الدلالة بالنسبة لرمزية النزاع في العلاقات الدولية، بحضور زوجة الرئيس السوفياتي غورباتشوف، رايسا، وزوجة نظيره الأمريكي، ريغان، في ذروة الحرب الباردة.

قد لا تحتاج الحرب ذاكرة لأن شواهدها المادية والرمزية تظل قائمة في أطلال الأرض والنفوس، لكن العمل الإغاثي النبيل محتاج إلى بنيات من هذا القبيل، تزرع بذور الوعي الفاعل تجاه فكرة الإنسانية كقيمة ينبغي الانتماء إليها وتجسيدها والاستعداد لمواجهة رهاناتها، تحت قصف الحرب أو في زمن الكوارث المحدقة بالعالم.

لا يخرج زوار متحف الصليب الأحمر بجنيف، الذين يفدون من كل أنحاء العالم، كما دخلوا أول مرة. تحتشد في جوانحهم حيرة حزينة تجاه انحدار البشرية المتكرر إلى فكرة التدمير، لكنها تتساكن مع إعجاب هائل بقدرة الإنسانية نفسها على التضحية من أجل حفظ الحق في الحياة والكرامة للجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى