الرئسيةثقافة وفنونمجتمع

ريشة في مهب الريح:سيرة ذاتية تسرد البعد الاجتماعي لساكنة الواحات

نمط عيش ساكنة الواحات نظام جماعي مؤسَّس على تنظيم إشراكي تضامني قد يعتبر نموذجا

صرح لحسن بلقسمي  لجريدة “دابابريس” أن رواية “ريشة في مهب الريح” هي  بمثابت سيرته الذاتية، سرد فيها تفاصيل حياته مستعملا ضمير الغائب، فصَّل فيها أحداثا بينه وبينها أمد بعيد وأخرى حديثة، حيث نجح من خلال روايته في تمرير رسائل متعددة الأبعاد، منها؛ أن حاضر الفرد لامعنى له ما لم يقترن بماضيه، وأن حاضر المرء ما هو إلا نتاج لماضيه، وأن التغيير الناجح يبدأ من ثورة الفرد على نفسه بتحديد هويته، ثم بعد ذلك على أسرته بوضع إطار لعلاقته معها، وأخيرا بالمساهمة في تطور المجتمع الذي يحتضنه، كما بعث عبر سرده لمجريات حياته رسائل لقرائه، مفادها أن المعنى الحقيقي للقدرة هو الإرادة، وأن المسؤول الوحيد والأخير لما قد يقع للفرد هو الفرد نفسه، وأشار انه لا ينبغي على الإنسان أن يعلق  أخطاءه على الآخرين، إلا استثناء. كما ذكَّر أن الحياة تعلم  أن ما لا يَقتُل يقوي، وأن من العزم سوء الظن، وأن من الضروري العمل على اكتساب ذكاء عاطفي لتدبير ردود الأفعال.

 روى أحداثا، وكله يقين  أنه لم يكن الوحيد الذي مر بها، وأيقن بأنها تهُم أشخاصا من جيله وآخرون ممن عاشوا نفس ظروفه الاجتماعية والاقتصادية، ولئن اختلفت بيئاتهم.

إن ما رواه أحداث تفيد في التعريف بالبعد الانثروبولوجي للبيئة التي نشأ فيها؛ مكنت من دراسة سلوك الانسان الواحي وتفسير تصرفات الأشخاص الذين تعايش معهم داخل أسرته الصغيرة أو داخل المجتمع الذي يحتضنه من حيث قيمهم، معتقداتهم، ثقافتهم، وسلوكهم.

وقد وردت في سيرته الذاتية صورة لسلوك أقرب لسلوك الإنسان البدائي، أتته أمه في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، عاينها وهي تعاني قصد إشعال النار واستدامتها، كما وصف أحداثا تتعلق بتقاليد وأعراف وثقافة الحياة اليومية تهم المورث الثقافي للبيئة التي نشأ فيها.

 وأقرب من التعريف بالبعد الانثروبولوجي، أثار الراوي من خلال ما سرده من أحداث عاشها، البعد الاجتماعي لساكنة الواحة؛ حيث سلط الضوء على أنماط العلاقات الاجتماعية السائدة والتفاعل الاجتماعي الإيجابي القائم فيما بينها، حكى عن نمط عيش ساكنة الواحات فتبين له أنه نظام جماعي مؤسَّس على تنظيم إشراكي تضامني قد يعتبر نموذجا يحتذى به في أي تنظيم جماعي ترابي.

عرَّج على تنشئته والتربية التي تلقاها في منزله، في الكُتَّاب وفي المدرسة، تبين له من خلال سرد تصرفات أبيه ومعتقداته، أن هذا الأخير يَعتبِره امتدادا لشخصيته وسلوكه، يريده صورة طبق الأصل لما يؤمن به ويعتقد انه صحيح، مما جعل منه ومن حياته ريشة في مهب الريح. كما تبين له أن الأساليب المستعملة لتعليمه وتربيته في الكُتاب كانت في جزء كبير منها مضيعة للوقت وأن النظام التربوي الرسمي متجاوز، غير منتج، يغلب عليه الهذر المدرسي ويعاني من سوء التخطيط، تماما كما هو الحال حاليا، فما أشبه اليوم بالبارحة !

سرد الكاتب أحداثا لها صلة بالثقافة السائدة في محيطه العائلي المشبع بالفكر المحافظ، السحري والديني، الذي يدعي الانتماء للسلالة النبوية، اكتشف الدُّونِية التي تعاني منها المرأة والقيود التي تحد من حريتها.

وحتى بعد أن تحرر من سلطة أبيه وتجاوز مطبات النظام التربوي الرسمي، عانى الأمرين في تعامله مع الإدارة العمومية المغربية، أولا، قبل أن يلج دهاليزها، وثانيا، بعد أن رُتِّب في إحدى أسلاكها. حكى عن مباريات تنظّم لشغل وظائف فيقع الاختيار، تارة، على أشخاص لم يشاركوا البتة في المباراة، وأخرى يُقبل من له انتماء حزبي أو نفوذ داخل الحزب المسؤول عن الوزارة.

كما حكى وعاين ظواهر اجتماعية داخل الوسط الإداري، حيث أصابه الخجل وهو يُطنِب في سردها، تتأرجح بين التحرش الجنسي والرشوة والقبلية …

سيرة حياته مفعمة بأحداث متنوعة ومشوِّقة مر بها عبر مسيرته، سافر فيها عبر الزمن، عايش بدائية مجتمعه طفلا، حوَّل جو طفولته المغتصبة إلى مجال للعب والترفيه عن النفس،  تجاوز كل تبعات الفقر وعانى من ضعف ذات اليد، عانى من رداءة الخدمة العمومية وهو مستلق فوق فراش الموت في مستشفى من المستشفيات العمومية مصاب بمرض خبيث، فاوض المنية مرات عدة، نجا غير ما مرة من شبح “الموت الأسود”، نقطة قوته، أن قطاره وهو يسافر عبر الزمن، انطلق من حال المجتمع البدائي المغلق  ووصل به لحدود الساعة إلى عصر الرقمنة، استفاد من أخطائه بأن حول نقاط ضعفه إلى نقاط قوة، كان بالفعل ريشة في مهب الريح وريشة بمداد لا ينضب. المقصود بالريشة هي الخفة والضعف أما الريح فيقصد بها الأقدار والسياقات المختلفة والصدف التي اثرت في المهب.

   كان  الكاتب صادقا مع نفسه ومع القارئ ومع اللغة التي كانت بسيطة ومعبرة بتلاؤم كبير، كتب سيرته بصدق وجرأة وذكر كل التفاصيل القاسية والحزينة وكذا المضحكة منها.

ادريس خروز

هذا وقدوجاء في تقديم  ادريس خروز للرواية “ريشة في مهب الريح مايلي:

     ” لقد أدهشني عمق هذه التجربة الحياتية لكاتب، لم تسمح لي الفرصة للقاء به، لكني أنا الآخر مهووس حتى النخاع بهذا المجال الجنوب الشرقي، أعرف حفرياته جيدا، تحدياته ورهاناته. قرأت هذه السيرة الذاتية، بفرح مدهش، ربما من منطلق قراءة حميمية أيضا.    قراءة عميقة لمسار طويل، ممتد من الولادة إلى التقاعد. مسار مليء بالأسئلة حول الذات الفرحة والشقية  في ذات الوقت. وحول واقع القصبة والقصر والقرية: طبيعة وثقافة وإنسانا. أكاد أجزم بأن الكتابة عن هذا الواقع مؤلمة، لكنها مفعمة بقوة داخلية للكاتب، تمكن عبرها من إشراكنا في لعبة السرد، وأجبرنا على التواطؤ معه في كثير من الأحيان.

      ” ريشة في مهب الريح”،  سيرة ذاتية،  كشفت عن بعض الأعطاب الذاتية والموضوعية والعامة، حيث تكلف “عبد السلام”، الأنا الراوي، من خلال مسار حياته، بحكيها، معتمدا في ذلك على سرد رقراق، كمياه وادي “غريس”، وجرأة محسوبة، وتوثيق لذاكرة جمعية أصابها النسيان. لعل من مميزات هذا النوع من الكتابة المدهشة في الحكي، تلك الأحاسيس التي تصلنا، ونحن نتابع أمكنة وشخصيات ومشاهد، تتشابك في عناصرها ومكوناتها ثنائيات: الهامش/المركز، القرية/المدينة، المغرب/فرنسا، الزهد/التبذير،  التخلف/التقدم، الإذعان/السلطة، القبيلة/الإدارة، الميز/المساواة…

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. رواية رائعة تستحق القراءة، تحكي عن السيرة الذاتية للكاتب الدكتور مولاي الحسن البلقسمي بدءا من طفولته بقصور الواحة ثم مراهقته بداخلية الثانوية و شبابه بالجامعة ثم التحاقه بالادارة بالعاصمة، مسار طويل مليء بالاحداث السعيدة و الاليمة وصولا الى التقاعد. سفر عبر قطار بدأ به رحلته من اابدائية الى عهد الرقمنة والعولمة، يقف بااقارئ في محطات تسرد ظواهر اجتماعية واقتصادية و سياسية مختلفة لا بد للقارئ أن يستمد منها القوة و الشجاعة و ياخذ منها دروسا تنفعه في الحياة. شكرا للكاتب و مزيدا من التألق

  2. رواية من صميم الواقع سردت احداثها تنفست الصعداء من خلالها، تحفز من يملك حسا ادبيا ان يروي تجربته يقينا مني ان كل تجربة تحمل دروسا، تغني جزئيا عن مقالات تحليلية في علم النفس الاجتماعي و السياسة والاقتصاد لا يسعني هنا الا ان أشكر من قام وبجراة بالتقديم لهذا العمل المتواضع, الاستاذ المناضل إدريس خروز والشكر للجريدة الالكترونية دابابريس والأساتذة بثينة الماكودي التي اسهمت في نشر المقالة .اخوكم لحسن بلقاسمي كاتب الرواية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى