رأي/ كرونيك

مافيات السطو على العقارات.. حقائق لا ينبغي أن يخفيها التوفيق عن الملك

بقلم مراد بورجة

 مرت الآن مدة زمنية طويلة تجاوزت مدة ستة أشهر التي حددها الملك محمد السادس لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق في رسالة دعاه فيها إلى إعداد تقرير شامل حول أملاك الأوقاف وماليتها.

وكان الملك وقتها شدد في هذه الرسالة على ضرورة صياغة استراتيجية تضع ضمن أولوياتها، الجرد النهائي لمجمل الأملاك الوقفية العامة، مع تحديد كل التدابير القانونية أو المادية الواجب اتخاذها للحفاظ على عقارات الأحباس.

إلاَّ أن من بين ما خَلُص إليه الوزير أحمد التوفيق، خلال هذه المدة، التي تطلبها إعداد التقرير، وهو أن لجنة التحقيق التي بعثها للدار البيضاء اكتشفت أن عشرات الهكتارات من أراضي الأحباس قد تم الاستيلاء عليها باستعمال الزُّور وكل أشكال النصب والاحتيال.

وهو الأمر  اضطر معه الوزير إلى إصدار تعليماته لناظر الأوقاف بالدار البيضاء لاسترجاع هذه الأراضي من خلال سلك كل المساطر القانونية الضرورية.

وخلص الوزير التوفيق في هذا السياق، أيضا، إلى أن مافيات السطو على العقارات لازالت تتحدى كل شيء بما في ذلك التعليمات الملكية الصارمة في هذا الباب.

وقبل هذه الرسالة الملكية الموجهة إلى وزير الأوقاف، كان الملك محمد السادس وجه رسالة مماثلة في شهر دجنبر 2016 إلى مصطفى الرميد الذي كان وقتها وزيرا للعدل والحريات حثه فيها بلهجة صارمة على التصدي الفوري والحازم إلى مافيات الإستيلاء على عقارات الغير.

وتضمنت تلك الرسالة الملكية الموجهة إلى الوزير الرميد عبارات غاضبة من خطورة هذه الظاهرة وما تشكله من مساس جسيم بحق الملكية الذي يضمنه دستور المملكة.


أكثر من هذا فقد أمر الملك محمد السادس في هذه الرسالة وزيره في العدل بـ”الانكباب الفوري على هذا الملف ووضع خطة عمل عاجلة للتصدي للظاهرة والقضاء عليها، والسهر على تنفيذها شاملة تؤمن الإعمال الحازم للمساطر القانونية والقضائية في مواجهة المتورطين فيها”.

ولم تقف الرسالة الملكية عند هذا الحد، بل أمرت بسن “إجراءات وقائية مبتكرة تضمن معالجة أي قصور قانوني أو مسطري من شأنه أن يشكل تغرات تساعد على استمرار ظاهرة الاستيلاء على أملاك الغير”.

الملك أعطى تعليماته أيضا في هذه الرسالة إلى احداث آلية للتتبع ومواصلة مهمة محاربة الاستيلاء على أملاك الغير، حيث أمر هذه الآلية أن تحرص على الإلتزام بالصرامة في التدابير والدينامية في الأداء والاستمرارية في التنفيذ إلى حين بلوغ المرامي المتوخاة.

ولأن الأمر يتعلق بتعليمات ملكية صارمة فقد تم احداث هذه اللجنة للتتبع المتكونة من كل مسؤولي القطاعات المعنية بمحاربة هذه الظاهرة.

وهي اللجنة التي استدعى إليها الوزير مصطفى الرميد كلا من وزير الأوقاف العضو البارز فيها إلى جانب  وزيري الداخلية والخارجية، وأعضاء آخرين كالوكيل العام لدى محكمة النقض، وممثل الأمانة العامة للحكومة، والمدير العام للوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح الطبوغرافي والخرائطية، والمحافظ العام على الأملاك العقارية والرهون، وممثل المديرية العامة للضرائب، والوكيل القضائي للمملكة، ورئيس مجلس الجالية المغربية بالخارج، ورئيس جمعية هيئات المحامين، ورئيس المجلس الوطني الموثقين، ورئيس الهيئة الوطنية للعدول.

وكلنا يتذكر أن الوزير الرميد جمع كل هؤلاء المسؤولين السامين وغير السامين بحضور مختلف وسائل الإعلام والصحافة، حيث تلا عليهم التعليمات الملكية الصارمة ليحملهم المسؤولية كُلًٌّ من موقع إختصاصه بخصوص محاربة مافيات وعصابات السطو على أراضي الغير سواء كانت أراضي مملوكة لمواطنين مغاربة أو أجانب أو أراضي مملوكة للدولة.

وبالفعل فقد باشرت هذه اللجنة عملها، ووقعت اعتقالات وتحقيقات ومتابعات قضائية وصدرت أحكام بالحبس ضد بعض المتورطين، لكن رغم هذه المجهودات التي بُذلت فإن “الأهداف والمرامي المتوخاة”، بتعبير الملك محمد السادس شخصياً، لم تتحقق كلها.

وإذا كان وزير الأوقاف قد كشف أن السطو على أراضي الغير ومنها الأحباس لازال مستمراً حتى اليوم ، فهذا له معنى واحد لا ثاني له، وهو أن المسؤولين على اللجنة المحدثة لم يحملوا التعليمات الملكية الصارمة على محمل الجد وبما فيه الكفاية.

والدليل على ذلك هو أن اللجنة لم توظف لحد الآن كل الصلاحيات الممنوحة لها بتعليمات سامية من الملك.

ويبذو أن هذه اللجنة لم تستحضر جسامة وتقل هذه المهمة التي أسندت إليها، لأنه لازال هناك حديث وسط الناس على أن هذه العصابات المختصة في نهب أراضي الغير تواصل عملها المافيوزي بكامل الحرية حتى اليوم.

ولم تلجأ اللجنة لكل الآليات القانونية الموجودة خاصة المادة 104 من ظهير التحفيظ العقاري الذي سنه ليوطي. وكان هذا الظهير في عهد اليوطي، للأسف، يوفر حماية قانونية كافية وصارمة للملكية العقارية، حيث كان المقيم العام في  سنة 1913 أكثر إدراكا بخطورة السطو على العقارات، قبل أن تتدخل أياد خفية لتعديله لإضفاء الغموض وخلق ثغرة ينفذ منها مزورو العقود العرفية التي استعملت سندا للإستيلاء على عقار الغير، حتى إذا ما تم البحث مع مزوريها تحججوا بتقادم الدعوى العمومية مثلاً، متناسين أن جريمة استعمال محرر مزور لا تتقادم طالما أن ذلك المقرر ينتج آثاره في الزمن متمثلا في كونه السند الذي يشهره أعضاء المافيا تبريراً لسطوهم على ممتلكات الغير.

وليست تلك النصوص التشريعية التي لجأت إليها اللجنة لحد الآن كافية لضرب مافيات العقار، وعلى اللجنة أن تتوسع في التشريع الذي أمر الملك محمد السادس للإستعانة به لإبتكار نصوص جديدة تستطيع من خلالها سد التغرات ومعالجة القصور القانوني أو المسطري لوقف عصابات السطو عند حدها.

بمعنى أن تحصين العقار في عهد ليوطي ويا للمفارقة، كان في أياد آمنة وبيد محافظين عقاريين وموثقين وعدول بأخلاق عالية وذمة نزيهة وحس وطني  يصعب معه بل يستحيل أن تضيع معه أملاك ومصالح الناس، ولهذا السبب كان يقال أن “الرسم العقاري يطهر العقار”.

أما اليوم فإن العديد من المحافظين والموثقين والعدول يقبعون خلف القضبان بمختلف السجون المغربية وذلك بتهم تقيلة تبتدئ بالتزوير  مرور بالتبييض وتنتهي بتكوين عصابات إجرامية.

وإذا كانت بعض عصابات السطو على العقارات استطاعت لحد الآن حماية نفسها بتواطؤ مع بعض الفاسدين داخل الإدارة وخارجها أو مدلسين ووسطاء وُظفوا في أعمال السطو والإستيلاء على أراضي الغير، فإن مسؤولية هذا الأمر ترجع إلى اللجنة المحدثة التي لم تبتكر ولم تبدع الآليات القانونية والدستورية لتطويق هذه العصابات كما هو الحال في العديد من الدول المجاورة لنا.

كان يجب على اللجنة إحصاء عدد الشكايات والملفات بخصوصها ومآل التحقيقات الجارية فيها، وأسباب تعثرها.

كان يجب على اللجنة خلق بنك معلومات بجمع بين المؤسسات المعنية وخصوصا تجميع المعلومات والوثائق بين المحافظات، والجرائد الرسمية، لأن من شأن أن يكشف عن الأسماء التي ترددت في الملفات، للوقوف على امتداداتها  ونفوذها داخل مجموعة من الدوائر والمؤسسات التي للأسف وفرت التغطية ومنحت التزكية والطمأنينة النفسية والفتاوى القانونية لهذه العصابات بشعار “زور وانصب ولا خوف عليك”.

وكان على اللجنة أيضا فتح بوابة لتلقي تظلمات المشتكين، والتواصل مع جميع جمعيات ضحايا السطو على العقارات لأن استقبال جمعية واحدة غير كاف.

وكان على اللجنة أيضا خلق آلية لتتبع ومراقبة أطوار خلق المطالَب التي تتعلق بالعقارات المهملة، أو ممتلكات الدولة غير المحفظة، والتي ليست بالضرورة موضوع شكاية.

وكان على اللجنة أيضا خلق تدابير تشريعية لإحداث قسم خاص بجرائم العقار، إسوة بأقسام جرائم الأموال العامة الأربعة، لا سيما أن مشروع التنظيم القضائي الذي صادق عليه البرلمان أحدث من خلاله غرفة عقارية سادسة كانت مندمجة من قبل في الغرفة أولى.

ثم إن عدم وقوف اللجنة على كل هذه التدابير وغيرها هو أكبر مؤشر على عدم استيعاب مكونات هذه اللجنة لخطورة عصابات ومافيات السطو على العقارات، وهو واحد من الأسباب التي ساعدت لحد اليوم هذه العصابات على التحصُّن من المتابعات القضائية  بالتحايل والإختباء خلف الثغراث القانونية والفراغات التشريعية التي شرعنت لهم كل أعمال النصب والتزوير والسطو التي يقومون بها على شاكلة شبكات ومافيات امتهان الجريمة المنظمة التي يصعُبُ الوصول إليها في ظل التشريع الحالي.

وبالطبع إذا كان  وزير الأوقاف أحمد التوفيق عضوا بارزا في هذه اللجنة، وحضر كل اجتماعاتها وعايش عن قرب كل إكراهاتها، ويعرف كل صغيرة وكبيرة تهم هذا الملف الذي يحظى بعناية ملكية خاصة، فإن منطق الأشياء يفرض على هذا الوزير السيادي أن يضع كل هذه الحقائق الخطيرة التي سردناها قبل قليل في تقريره الذي يُنتظر أن يرفعه خلال الأيام القليلة المقبلة إلى الملك.

بمعنى آخر فالوزير التوفيق مطالب بأن يصارح الملك بهذه الحقيقة الصادمة، وهي أن تفعيل التعليمات الملكية في هذا الملف بالتحديد اصطدم بنصوص قانونية “تغازل” ممتهني السطو على عقارات الغير عِوَض أن تحاربهم.

ومن بين هذه النصوص تلك الصيغة القانونية التي تتحدث عن “المشتري حسن النية”. والمقصود به ذلك الشخص الذي يشتري عقارا من  مشترين آخرين اتُهموا أو توبعوا بالتزوير للإستيلاء على العقار.

وقد لا يكون هذا المشتري “حسن النِّية”، بل هذا “الحسن” قد يكون “سيئ النية”، أي يشتري عقارات رغم وجود تقييدات أو رهون أو عقود مزورة أو شكايات أو حتى متابعات قضائية في حق المشتري المدلس الوسيط الأول، الذي من السهل إثبات علاقته به، وقد يوجد نفس المدلس في ملفات أخرى، ورغم أن العقار لازال مجرد مطلب. ورغم عدم استيفاء شروط العقد بين هذا الأخير والمشتري الذي يدعي أنه “حسن النية” المدحوضة بوجود كل هذا.

والدليل على هذا “السوء” في النية هو أننا نعثر على إسم نفس الاسم يتكرر ذكره في ملفات سطو عديدة أو مشبوهة.

كما نعثر على نفس الاسم أيضا في شكايات متعددة  لضحايا ومتضررين وذوي حقوق، يتهمونه مباشرة بالتزوير والسطو على عقاراتهم.

لكن المثير في هذه القضية حسب بعض المشتكين هو أن هناك أحكاما قضائية بالحبس النافذ صدرت بناء على بعض هذه الإتهامات ضد بعض الذين يزعمون أنهم أصحاب نية حسنة وما هم كذلك، إلاّ أن هذه الأحكام لم تجد طريقها إلى التنفيذ، كما أن هؤلاء المشتكين أنفسهم يتساءلون كيف أنه في الوقت الذي اعتقل أشخاص بسبب شكايات السطو على العقارات فإن البعض الآخر يستفيد دائما من المتابعة القضائية في حالة سراح عن نفس القضية وعن نفس التهمة.

وليس هذا فحسب، إذ أن هناك أيضة ثغرة قانونية أخرى تستغلها بعض مافيات العقار وهي تلك المتعلقة بقبول تسجيل عقود شراء عقارات أو أسهم شركات تملك عقارات بتواريخ قديمة، وذلك لئلا يظهر إسم “المشتري سيء النية” إلاّ بعد أن يكتسي العقار الصبغة الشرعية والقانونية.

بقي فقط أن نقول. ما أكثر لجان التحقيق حين تعدها لكن مافيات العقار ستظل هي الأقوى وستظل فوق القانون ولن تهزمها أي سلطة. وهذه هي الحقيقة المرة التي ينبغي ألا يخفيها الوزير التوفيق على الملك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى