رأي/ كرونيك

عبدالرحيم تفنوت: كلام إلى “صديقي” محمد رجل البحر والملح…

عبدالرحيم تفنوت

اليوم تكتمل،بالتمام والكمال ، ستة وعشرون سنةويوم وساعات ، عن رحيلك السريع نحو النزع الأخير…يامحمد …
آه و آه – لو تعلم ياصديقي وياواحدا من أبائي الذين أعزهم معزة الحلاج لخالقه – كم كان ” ذهابك ” بحجم الحزن الفظيع على كل الذين أحبوك واحبوا فيك الشهامة القاسية والهشاشة العاطفية التي تسكن قلب كل عامل عنيد لم تستقبله الحياة بملاعق الذهب أو بمكبات النوار الفائح بالعطر…


نعم يامحمد البحري، لازلت أذكر مشهد وداعك بحرقة الذي فقد جوهر الاقتراب ، مشهد صعود روحك إلى مدارجها العليا وهي تنفلت خطوة خطوة وبهدوء لم يلحظه أحد، لأنك كنت في قرارة نفسك لاتحبذ أن يراك المتحلقون في الغرف المحيطة بك وأنت تواجه موتك الذي كنت تحس به وحدك…ووحدك كنت تدبر هذا الانتقال الوجودي بايمانك المعهود بخالق خلقك من علق وإلى الوجود اخرجك، دون خوف ولا رهبة أو حسرة…

رغم أننا جميعا كنا نعرف مدى عشقك للحياة بعلمها وعملها وبمنافعها ومكاتيبها،بجمال طبيعتها ومرح وجودها،،،، لكن كل ذلك لم يخرجك عن طوعك وتوازنك،فكنت الأعقل فينا جميعا وأنت طريح الفراش تصارع المرض الصعب الذي تسلط في غفلة من أبناءك وبناتك والسيدة التي قاسمتك الوفاء وكل الذي وقع…

نعم لازلت أذكر هذا المشهد التراجيدي الذي جرت وقائعه في زمن قياسي ، كنا أنا وابنتك مليكة نتمنى، ونحن نرافقك في زمن العلاج أن ينتهي ببشرى استعادتك ومقاسمة الوجود معك من جديد وبفرح يعوض بعضا من حبك لها….

وقرب فراشك كنت أنا وابنك عبدالحق قربك، واحد على يمينك والآخر على يسارك، الأول يشد يدك اليمنى والثاني يأخذ بيدك اليسرى،،،، لقد كنت أدرك أنك تخصص لي بعض امتياز من محبتك ، إذ كنت تعاملني لاكابن فقط بل ك” صديق” منذ أن دخلت رحابك وجلست بجوارك لأول مرة بمناسبة طلبي يد ابنتك التي سأتقاسم معك حبها ،وأنت الذي كنت تضعها في صلب دواخلك دون هوادة…ولكم كبرت صورتك في عيناي حينما استقبلتني وقبلت ودي ،وأنت تعلم الكثير عني وعن اختياراتي السياسية والثقافية وعن سنوات سجني في زمن مغربي كان يخاف أناسه من صهيل المخزن والحديد والنار والبحر…

كان هذا درسك الأول لي وقد قرأت تفاصيله بعناية ، جعلتني أحس – وقتها- أن أبي الذي رافقني في ذلك اليوم لم يسلمني إلا لصديق قديم له ،انقطعت صلاته به ليقرر القدر أن يلتقيا من جديد برغبة من أبناءهم…

وتوالت الأيام، وفي كل مرة كنت أكتشف فيك سرا من أسرارك، لقد كانت لك طاقة لاتنحني في البحث عن جلب السعادة للناس المحيطين بك، وكان مدخل السعادة عندك يبدأ بشئ رئيسي بالنسبة لك هو تعليم الناس حب التعليم والتعلم ..وكنت كثيرا ماتصر بهمس حميم قائلا لي” آسي عبدالرحيم راه القراية هي اللي كتجعل بنادم بنادم…اوهادشي حسيت بيه من أيام الفرنسيس اللي ربحونا بالعلم أو القراية…ماشي غير بالسلاح.”..

لقد كنت تقدر المرأة التي كانت تأتي إليك محملة باتعاب اليومي اللعين تطلب مساعدتك لها لإيجاد مقعد لابنتها في المدرسة القريبة من دارها…وكنت تخاصم رجلا لايهتم بمتابعة تدريس أبنائه والذهاب إلى المدرسة للقاء معلميهم واساتذتهم…
بطبيعة الحال لم تسقط عليك عبثا هذه الميزات من السماء، بل هي نتائج تجربة حكاها لي العديد من أقربائك، في العائلةالواسعة و الصغيرة، وعلى رأسهم زوجتك الحلوة ” مي امباركة بنت عبدالله” ،هاته الأيقونة التي وهبها لك الله في لحظة هدوء وجودية..

منذ غادرتنا ،،وهي لم تتوقف عن استرجاعك…إما عبر دعاء لك بالجنة كل صلاة من فجر الليل إلى نهاية صلاة العشاء، ،أو عن طريق لعبة مطاردة النسيان،،، ولذلك حكت لي الكثير عنك مما كنت تخفيه بحياء وتواضع الكبار ،عن النضال مع الحركة الاستقلالية بجانب قادته الشهيرين كعلال الفاسي، وسيمحمد بوستة، والحرايشي وغيرهم…وعن سنوات العمل النقابي سنوات تاسيس الإتحاد المغربي للشغل وقبله مع الشيوعيين كما ذكرت لي، ،وبعدها بعد الانشقاق وانحيازه إلى نقابة الاتحادالعام للشغالين…

الميناء في زمن الفرنسيس وماأدراك بالفرنسيس، لم يكن مقر عمل وجلب أجرة وعيش، بل كان ملتقى للحضارات كما يحلو للمينائيين أن يصفوه…فيه تعلم محمد الدكالي منطق المدينة الصاعدة بقوة، فادرك فيه معنى وصف نبي العرب للعمل بأنه عبادة ،هو وأقرانه ،ولذلك بقي كالنمل الشغال رجل عمل في أكبر ورش تجاري صناعي خرج مخططه من رأس ” ليوطي” … ولم تكن عبادة العمل وحدها ماشرب عذوبتها هذا الولد الطموح، بل لقد وهبه عقله المحب للمعرفة حسن الملاحظة وإدراك ” بريستيج ” الحداثة في الميناء …

الحداثة هي من علمه احترام بيته، وتحمل المسؤولية الشخصية في بناء ذلك البيت، بكل تكاليفها، كما أن الحداثة هي من جعلته يتعرف على أناقة اللباس، وفن الذهاب إلى السينما، وحده وفي الغالب برفقة الزوجة وبناته…

وهي في الأخير ماجعله يؤمن إيمانا راسخا بعلم الطب الحديث، فحبه للحياة وحمايتها حوله إلى إنسان عقلاني، صحيح الإيمان بدينه وخالقه، لكنه لايثق إلا بالطبيب،،،مع ماكلفته هذه القناعة من كلفات مالية كبيرة أحيانا لعلاج ولد من أولاده أو إبنة من بناته…أو زوجته….

نعم أيها ” الصديق البحري” ،،الآن أظن أني – ربما- قد ابلغتك ببلاغ كان علي أن أبلغه لك قبل سنوات فتعطلت في ذلك…لكنني أعتقد أنك قد علمت الآن، ولو بموجز للاحكام، كم كان حجم رحيلك محزنا علي وعلى ابنتك، وعلى أبنائي الذين هم احفادك ويذكرونك كلما عز عزيز عليهم… وأيضا على أبنائك الذين احتفوا بذكراك قبل يومين بذكرى صعودك إلى أعلى عليين…

فشكرا لك يوم ولدت، ويوم تبعث حيا..شكرا لك ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى