رأي/ كرونيك

عبد الله العروي الآخر: المرشح البرلماني..المتسامح مع التطبيع..وصهر تاجر السلاح…(!) (2/2)

عبدالرحيم التوراني

في إحدى المحاضرات التي نظمتها الجمعية المغربية لمدرسي الاجتماعيات واحتضنتها قاعة عبد الصمد الكنفاوي بحديقة الجامعة العربية بالدار البيضاء، امتلأت قاعة المحاضرات عن آخرها وظل الكثيرون واقفين على الجنبات، كما كان الأمر أيامها في أغلب الأنشطة الثقافية. كان المحاضر هو الأستاذ المفكر والمؤرخ عبد الله العروي، لدى المناقشة تكلم أستاذ من الحاضرين وطرح سؤالا، فما كان من العروي إلا أن رد على المناقش بكل استهتار واحتقار:
– سِرْ تقْرا أولا.. وتعلم كيف تطرح الأسئلة.. عادْ أجي اطْرحْ سُؤال… (!!!)

صادفت مرات كثيرة في بداية التسعينيات، عبد الله العروي في محطة القطار أكدال، لما كنت أقوم برحلات يومية ما بين الدار البيضاء والرباط، كنت أراه يقف وحيدا في باب المحطة المؤدي إلى السكة، يحني رأسه كمن يكلم نفسه، ثم يتطلع بين حين وآخر إلى بداية النفق الذي سيقدم منه القطار، بيده محفظة متوسطة جلدية، بنية اللون، وكان يرتدي في الغالب بذلات مع قميص أبيض وربطة عنق، وألوان بذلاته كانت فاتحة ما بين الرمادي والأخضر الباهت، جديدة واضحة عليها خطوط الكي، بذلات من نوع الملابس الجاهزة التي اختص بتجارتها الهنود في شارع محمد الخامس بالدار البيضاء، هي نفس البذلات التي صادفت مرة محمد عابد الجابري رفقة زوجته مليكة يجرب قياسها عليه في سدة أحد دكاكين الهنود البيضاويين.
ولأن العروي من أنصار القطيعة المعرفية مع التراث العربي-الإسلامي، وضرورة تبني قيم الحداثة الغربية، باعتبارها قيما إنسانية، فلا أحد له صورة للمفكر والروائي عبد الله العروي باللباس التقليدي المغربي، الجلابة والبلغة والطربوش أو الطاقية. وهي الصورة التي ربما كان لن يفلت منها لو صعد إلى البرلمان وحضر جلسة افتتاحه من قبل الملك.
كما للعروي، في نفس السياق، موقف عبر عنه مرة، من تراث غناء “العيطة” والشيخات، إذ يصنفه بالابتذال وبالهامشية، هذا الفن الشعبي الذي خصص له صديقنا حسن نجمي وقتا طويلا من أجل دراسته، وهيأ حولة أطروحة دكتوراه نشرتها دار “توبقال” بالدار البيضاء في جزئين.
***
سنة 1999 لبيت دعوة رجل أعمال مهتم كبير بالفنون التشكيلية، كان اقتنى في مدينة مراكش، قصر وزير الحربية في عهد المولى الحسن الأول، وهو قصر الوزير المهدي المنبهي، وحوله إلى متحف فسيح، خاص بعرض الفنون التشكيلية. كنت ضمن نخبة من الصحفيين ممن دعاهم رجل الأعمال المرحوم عمر بنجلون لزيارة “متحف مراكش”، وإلى الوقوف على ترميم “القبة المرابطية” التي تقع على بعد أمتار فقط من المتحف، في ساحة عامة صغيرة، وقد تبرع بنجلون بنفقات ترميمها.
كان ضمن وفد الصحفيين الذين جاء أغلبهم من الدار البيضاء الزميل المرحوم المثقف الطيبي حذيفة عن أسبوعية “لافي إيكونوميك”، ورشيد نيني عن يومية “الصباح”، وعبد الله الشيخ عن “الصحراء المغربية” والشاعر الفرنكفوني عبد الرحمان بنحمزة..
وخلال حفل الغذاء الذي أقامه رجل الأعمال في الهواء الطلق داخل فضاء قصر “ماجوريل”، وقد اقتناه من ورثة مصمم الأزياء العالمي إيف سان لوران، تعرفت إلى سيدة قدمها إلي الطيبي حذيفة، امرأة لا تكف عن الابتسام، مرحة ولطيفة، وكان اسمها لطيفة، هي قريبة مضيفنا رجل الأعمال، الذي يحمل بالمصادفة، نفس اسم الشهيد اليساري عمر بنجلون.
الدكتورة لطيفة بنجلون امرأة مثقفة ثقافة عالية وصاحبة عدد من المؤلفات، منها مؤلف خاص عن المخطوطات في عهد الحركة الوطنية، موضوع أطروحتها لنيل الدكتوراة من السوربون. وسأكتشف بأنها زوجة المفكر الكبير عبد الله العروي، وقريبة رجل أعمال آخر من كبار المصرفيين بالمغرب ومن تجار السلاح، وهو عثمان بنجلون الرئيس المدير العام للبنك المغربي للتجارة الخارجية، وقد أضيف حديثا لفظ (افريقيا لاسم البنك في السنوات الأخيرة).
إذن عبد الله العروي سليل مدينة أزمور وصاحب رواية “اليتيم” صهر لعائلة من أكبر العائلات في البلد، وإحدى بنات المارشال أمزيان هي عديلته، زوجة عثمان بنجلون، وإذا اقتفينا السلالات، وفق منهجية الباحث الأمريكي جون واتربري صاحب كتاب “أمير المؤمنين.. الملكية والنخبة السياسية في المغرب”، سنجد ما سيدهشنا أكثر فأكثر.
لطيفة بنجلون العروي لم تكن تتأخر عن دعوات غادي غولان رئيس مكتب الاتصال الإسرائيلي في شارع بني يزناسن، الشارع الذي أصبح يحمل اسم المهدي بنبركة في منطقة السويسي بالرباط.
كانت صور مدام لطيفة بنجلون العروي تطلع باستمرار في نشرة “اللقاء” التي تصدر عن المكتب الإسرائيلي قبل إغلاقه بسبب حرب غزة في نهاية أكتوبر 2000. وكانت نشرة “اللقاء” تتعمد نشر صور ضيوف حفلاتها. من ضمن ضيوف غادي غولان، كان كل من الصحفية نرجس الرغاي ابنة وزير المالية في عهد الحسن الثاني عبد الكامل الرغاي، والصحفي خالد الجامعي الذي سبق له أن أقام بإحدى المستوطنات في إسرائيل لما كان مرتبطا بامرأة يهودية من كندا.
لكن لا أحد سمع أو قرأ رأيا واضحا لعبد الله العروي حول التطبيع، أو بشأن تطبيع زوجته الكريمة السيدة لطيفة بنجلون…
أم أنه يحق لها ذلك ما دامت والدتها من أصول يهودية، إذ تتحدر أمها من أب ألماني وأم نمساوية يهوديين، فوالدة زوجة العروي تسمى لينا فلوش الكاتبة والصحفية.
لما اقترنت الصحفية اليهودية الألمانية لينا فلوش بالمحامي المغربي المسلم عبد القادر بنجلون أشهرت إسلامها وحصلت على الجنسية المغربية، و”آمنت بالمغرب المتحرر والمتقدم، وكانت تدافع مع زوجها عن حقوق الأمة المغربية”، كما كتبت لطيفة العروي تتحدث عن سيرة والدها في كتاب صدر بالفرنسية قبل سنة.
أما والد زوجة العروي فهو الوزير السابق عبد القادر بنجلون (1908- 1992)، وكان من قادة حزب الشورى والاستقلال بزعامة محمد بلحسن الوزاني. تولى الوزارة ثلاث مرات، في بداية الاستقلال عين وزيرا للمالية بحكومة الكولونيل امبارك البكاي، وفي سنة 1962 عين وزيرا للشغل والتكوين المهني، ثم في 1963 وزيرا للعدل.
***
عين الحسن الثاني في نهاية الثمانينيات عبد الله العروي في الأكاديمية الملكية، بخلاف محمد عابد الجابري الذي رفض معتذرا عن عضويتها، وأوكل الملك للعروي مهمة مصاحبة ولي العهد الأمير سيدي محمد واطلاعه على دروس في التاريخ والفكر والسياسة، لكن العروي بعد فترة وجيزة سيعود إلى الملك ليخبره بأن الأمير غير مبال أو غير مهتم، مما أوقف تلك المصاحبة، وبعد توليه المُلك ظل محمد السادس يبعد عبد الله العروي، حيث لم يمر خيط التواصل بينهما، ومعروف عن المفكر والروائي أنه صعب المزاج، وليس من السهل التواصل معه.
وقد ذكرني صديقي الطاهر المحفوظي (المعتقل السياسي السابق) بحدث توشيح الحسن الثاني للمفكر عبد الله العروي بوسام استحقاق ملكي بمناسبة احتفال الملك بذكرى عيد ميلاده (عيد الشباب)، والمثير في هذا التوشيح الذي شهدته مدينة الدار البيضاء، أنه صادف في نفس اللحظة توشيح الإيطالي فرنسيسكو سمالطو، مصمم بذلات الحسن الثاني، والذي كان له محل يحمل اسمه بالعاصمة بالقرب من المكتب القديم لمنظمة التحرير الفلسطينية. كأن لكل واحد من الموشحين الاثنين، العروي وسمالطو رداء خاص يرديه على الملك حتى يرضى عنه ويرضيه.
***
ألف العروي كتابا حول الحسن الثاني بعد رحيله، لكنه لم يعمد إلى ترجمته إلى اللغة العربية رغم مرور أكثر من عقد على نشره، وهو كتاب لا صلة له بالمديح الذي كاله العروي للحسن الثاني بعد ربع قرن من توليه حكم المغرب في ذلك البرنامج الذي شاهده المغاربة في إحدى أمسيات شهر مارس من سنة 1986.
***
لا يعترف عدد من النقاد بالقيمة الأدبية لأعمال العروي في الرواية، ومنها روايتيه “الغربة” و”اليتيم”، ولم يستوعبوا ما ذهب إليه مرة حين حل ضيفا على أولى حلقات برنامج “سينما منتصف الليل” لنور الدين الصايل، حين صرح العروي بأن الروائي العربي هو الروائي الوحيد في العالم الذي يعرف نهاية روايته عندما يشرع في كتابتها.
أتذكر كيف استنكر صديقي الأديب والروائي إدريس الصغير هذا الكلام، وقال لي: “قد أحترم عبد الله العروي المفكر، لكن عبد الله العروي الروائي فإن في الأمر حديثا”.
هل كان عبد الله العروي يعرف نهاية “رواية” مساره الأدبي والفكري، من مرافق وكاتب للزعيم المهدي بنبركة ومحرر للاختيار الثوري، إلى مفكر يختلي في برجه العاجي، “يظهر ويختفي” كثعلب محمد زفزاف، فقد اختفى زمنا قبل أن يطل علينا عبر القناة الثانية مدافعا عن اللغة العربية ومطالبا بحذف المثنى من أفعالها (!)، ثم عاد لينزوي، وما زلنا ننتظر منه أن يظهر، يظهر ليحدثنا عن الجائحة ويفسر لنا ماذا سيحل بنا وماذا سيفعله بنا كورونا، باعتبار عبد الله العروي من أبرز المفكرين الذين نفتخر بهم في المغرب ونباهي به الأمم.
نتمنى أن يكون مفكرنا الكبير بخير.
مع عذري استاذي إن كنت تجاوزت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى