رأي/ كرونيك

المشهد السياسي و الاجتماعي بالمغرب : نهاية مرحلة !

لن يختلف المتتبعون و الفاعلون ذووا الميولات الفكرية المنتصرة للبحث الموضوعي ، حول حقيقة أن الصراع الضاري حول السلطة ، الذي نشب قبيل ، أثناء و أعقاب الاستقلال ، و الذي تصادمت فيه المؤسسة الملكية مع جزء من الحركة الوطنية و الديمقراطية و اليسارية على امتداد عقود ، لن يختلفوا ، لا ريب ، حول أن هذا الصراع هو ما أتاح تشكل البنية التحتية للفساد بكل أشكاله ، من جهة ، و الأرضية الصلبة للعدمية في شتى أصنافها ، من جهة أخرى .هذا الفساد و تلك العدمية اللذان جعلت منهما تطورات الأحداث و الأشياء و الظروف حليفين استراتيجيين في مخاصمة أي انتقال ديمقراطي ينجز مهام دولة المؤسسات و الحق و القانون و التنمية و الإنصاف الاجتماعي .

خالد فضيل

لقد وجد الحكم نفسه ، آنذاك ، في حاجة إلى حلفاء في الصراع و لم يكن ليكترث بمن يكونون لأن خياراته كانت محدودة في معركة وجود . من هنا جاء إلى الأمن أوفقير و إلى الاقتصاد حيتان الريع و إلى السياسة مفهوم الأعيان الذي بات يتطور ، قدحا و قبحا ، حتى أصبح يعني في الواقع و في المخيال الشعبي ، أصحاب المال اللامشروع الذين يحتمون بأي حزب إداري تأتي به موجه الإيحاء و لا يهمه سوى عدد المقاعد في الانتخابات ، كفائته الوحيدة تكمن في إتقان فنون نهب خيرات البلاد و سلب إرادة الناس و ترهيب من قد يجهرون بالحقيقة . في المقابل من ذلك وجدت فكرة الإصلاح نفسها مطوقة بقوة الفساد الغاشمة و بقدرة خطاب العدم على نثر اليأس في وعي الجماهير .

ورغم كل ما يمكن أن ينتجه الخطاب السياسي في توصيف قتامة أوضاع المغرب ما قبل 1995 على كافة المستويات ، فإنه سيكون مجانبا للحقيقة و الصواب و الموضوعية ،القفز على لحظات معينة كانت واضحة فيها إرادة المؤسسة الملكية في التخلص من الشوائب المعيقة للإصلاح حتى و هي في ذروة أزمة الثقة مع قيادات المشروع الديمقراطي .

هنالك وقائع تسند ما نذهب إليه من خلاصات نستدعيها في سياقها التاريخي لاعتقادنا أن ما كان يعيق طموح المؤسسة الملكية و القوى الحقيقية للإصلاح و القوات الشعبية و يشوش على التوافق بين هذه الأضلاع المركزية في ماضي و حاضر و مستقبل البلاد ، للانتقال من وضع سمح للوبيات الفساد و قوى النكوص بإعاقة ممكنات التغيير ، إلى وضع نصلح فيه كل الأعطاب التي شخصها التصور الديمقراطي و تقرير البنك العالمي و خطاب السكتة القلبية فيما مضى و دققها ، مع العهد الجديد، سياسة المفهوم الجديد للسلطة و حقوقا توصيات الإنصاف و المصالحة و اقتصادا و تدبيرا و تنمية بشرية التقرير الخمسيني ، وضع يليق بالمغرب و يشعر فيه المغاربة بالكرامة و الحريات و الرعاية الاجتماعية و نظافة حياتهم السياسية من القذارة ، التي حتى و إن رغدت في المال تبقى قذارة لا تبعث إلا على القرف .إن ما كان يعيق هذا الانتقال ما زال مستمرا ، و ربما بشراسة أبشع ، حتى الآن و ما كان يجب الانتهاء منه ، آنذاك ، بالعمليات الجراحية الدقيقة مازال مطروحا الإنتهاء منه بأي ثمن الآن.

سيكون مؤسفا جدا السماح لمن أفسدوا و نهبوا و لطخوا و أمعنوا في مسخ الفعل السياسي و الاجتماعي و لا يخشون إلا على الثروة و الحظوة و النفوذ ، سيكون مؤسفا السماح لهم بالاستمرار في المشهد الوطني في مرحلة مجابهة تحديات دولية شائكة مرتبطة بتأمين الاستقرار الاستراتيجي للبلاد ووحدتها الترابية و أوراش وطنية كبرى من حجم المشروعين الاجتماعي و التنموي الجديدين ، الواعدين و الكفيلين بحجز المغرب بطاقة نادي الدول الصاعدة و سيكون مقلقا للغاية اجترار عوائق الإصلاح في ثنايا مشروع إصلاحي بهذا النبل و بهاته الأبعاد .

ليس بمقدور من قلبهم على البلاد و الناس ، استساغة أي تعايش بين إرادتين و توجهين و سرعتين .إرادة الإصلاح التي أفصح عنها الملك منذ صيف 1999 و توجه الدمقرطة و الحداثة و التقدم الذي يترجمه عبر المبادرات و العمل الدؤوب و السلوك السياسي و سرعة التعاطي مع المعضلات الكبرى التي تتوهج أكثر و أكثر رغم كل الإكراهات و بين إرادة لا تبتغي ، في المقابل ، سوى احتلال المؤسسات و تعزيز المصالح و إعادة الانتشار في رقع التحكم بشراء الضمائر و استغلال بؤس الناس و إشهار ورقة القرب من مراكز القرار و توجه ، في النقيض ، يمقت الدمقرطة و المحاسبة و حقوق البشر و بطئا ، عكس مجريات الانتقال ، يعمل على رعاية أسباب التأخر و احتجاز إمكانيات الجماعات الترابية و الجهات و الدوائر البرلمانية ليرعب بها المواطنين وقد يعبث بكبريائهم و يجعلهم يتسولون ليبقوا خزانا للأصوات أيام الانتخابات .لم يعد ممكنا الرهان على نخب تظهر على شاشات القيادات و الفضائيات لتتحدث عن القيم و هي تستند في السياسة على أعيان فاسدين ، لم يعد ممكنا الرهان عليها و هي لم تقدم أي شيء للعهد الجديد و للمواطنين غير الممارسات المشينة و السماجة و الصلافة و دفع الناس إلى البؤس و إلى اليأس .

هناك من نهب خيرات مناطق بأكملها و منح الساكنة الفقر و منح الدولة احتجاج الناس و مازل يتنقل من حزب إلى حزب في بحث محموم عن غطاء سياسي للفساد و عن وضع اليد على ما فوق الأرض و ما تحت التراب و مازالت أحزاب تزعم النزاهة و تنشد قيادة الحكومة تجد لهم موطئ قدم ليمعنوا فيما أساؤوا للبلاد و المؤسسات و الناس فيه .

أين كان هؤلاء عندما أحرق البوعزيزي نفسه في تونس و امتد الصدى إلى عموم جغرافيا العرب من المحيط إلى المحيط ؟
أين كانوا عندما كانت الدولة تبتز على ضفاف الوثيقة الدستورية قبيل يوليوز 2011 من قبل من لم يكن الإشكال الدستوري يوما على سلم أولوياتهم ؟

أين كانوا حينما احتاجهم الناس ليبلغوا الاستياء قبل أن يغمر الشوارع في الريف و جرادة و مناطق أخرى من الوطن ؟
أين كانوا حين كانت الدولة تنتظر دور الوساطة بينها و بين الشارع لئلا يوظف احتجاج اجتماعي مشروع في أجندات إقليمية و دولية تركت أكثر من توجس و العديد من علامات الاستفهام ؟
لقد كانوا ، بكل بساطة ، فاقدين للمصداقية ملفوظين من الملإ و على الملإ بل و قد يكون منهم من تأبط الثروة و جواز السفر و تأهب للهروب الكبير .

علينا التحلي بالشجاعة و الوضوح الكافيين لقول ما يجب قوله دون لف و لا دوران. لا يمكن استنطاق التاريخ أكثر مما نطق و الناس و أطفالنا و عهد الحسن الثالث سيحاسبوننا ، بكل تأكيد ، سواء بقينا على قيد الحياة أم كنا في ذمة الله.

إنه لمن دواعي الاستغراب و الدهشة و التساؤلات المؤرقة أن يومئ البعض لإمكانية إعادة إنتاج تجربة صيف 2008 بتوجه و أدوات و منطق يعود إلى ما جرب في 1977 . هذا ديباناج سياسي لا يليق بالمرحلة إطلاقا و الأكيد أن تجارب على هذا المنوال لن تعيد نفسها ،في أحسن الأحوال ، إلا في شكل باب مسدود و إثارة لغضب الناس .المثير في الأمر هو إدراك حزب الأصالة و المعاصرة نفسه لهذه الحقيقة .هذا الإدراك الذي جعل مؤتمره الأخير و أمينه العام الحالي يقران بالأخطاء القاتلة المقترفة على امتداد إثنا عشرة سنة و يبتغيا العودة للأصول و لفكرة حركة لكل الديمقراطيين و لتصور براغماتي للتحالفات و لترتيب جديد للخصوم و للقطع مع من قدموا إليه لإخفاء فسادهم في جلباب السلطة أيام لم تكن تفصله و لو شعرة عن السلطة .

لن يستطيع من خبرهم المغاربة منذ سبعينات القرن الماضي و يعلمون أسباب نزولهم و السياق و يجيئونهم اليوم بمرشحين رحلوا عمن عزم استعادة قراره السياسي و التخلص من التماهي مع السلطة و برموز لا يذكرون المغاربة سوى بالسياسة بعد أن افتقدت العمق الفكري و أسقطت من جدول أعمالها قضايا الناس ، لن يستطيع من يعتمدون على الممارسة السياسية و الاجتماعية العتيقة للأعيان القدامى و الجدد أن يتحدثوا باسم الانتقال إلى الديمقراطية و العدالة الاجتماعية و لن تسعفهم لا الكلمات و لا الحس الفطري للجماهير في ادعاء أنهم قادمون بعرض سياسي جديد حتى و هم يلوحون و يلمحون إلى القرب من دائرة صناعة القرار .الدولة ، ياسادة، لم تعد في حاجة لمن يتحدث باسمها في الحقل السياسي طالما تحظى المؤسسة الملكية بثقة و رهانات و حب المغاربة و طالما أثبتت صرامتها عندما يتعلق الأمر بالوحدة الترابية و الوطنية و بتطلعات المواطنين و طالما أبدت قدرتها على التعايش مع كل القادمين من صناديق الاقتراع بصرف النظر عن مرجعياتهم و أهدافهم و نواياهم المعلن منها و المضمر في تكتيك هنا أو تقية هناك .

على النخب السياسية المغيبة للفكر و الرؤية و البرنامج و لمصالح البلاد و الناس و المعولة على المال و الحظوة و الأعيان الفاسدين، على تلك النخب أن تعلم أنها قد تفوز بالمقاعد في المؤسسات و قد تتصدر المشهد النيابي حتى ، لكنها و بهذه النمطية الرعناء و بهذا المنطق الضارب في الاستهانة بمصير البلد و الناس و بهكذا عدم التحاق بروح العهد الجديد ، فإن استمرارها في المشهد الوطني لن يجلب لا النمو و لا الثقة و لا إصلاح أعطاب الإدارة و لا التفادي النهائي لأجواء خيمت شتاء 2011 و خريف 2016 و مستهل 2018 . و سيكون سخيفا أن نذكرها بما نطق به لطفي بوشناق و هو يمسك عودا و يذرف الدموع لئلا ترتبك بلاده من جديد .

و لئن غضضنا الطرف عن الانتخابات القادمة ، اعتبارا للملابسات المحيطة بها ، بدءا بإخفاق تجربة حزب العدالة و التنمية الذي تتحدث عنه الأرقام مرورا بمقت الناس للنخب الحالية وصولا لدروس و عبر الجائحة ، سيبقى السؤوال المنتصب ، طبعا ، هو ما المطروح في مرحلة تجابه فيها البلاد معادلات دولية شديدة التعقيد و تنشد في الآن نفسه تقعيد نموذج تنموي جديد بمواصفات الصعود الاقتصادي و دولة الرعاية الاجتماعية؟

يبدو ، في تقديرنا ، أن خطاب القوى الديمقراطية كان مجانبا للحصافة عندما كان ينادي بتقليص صلاحيات و حجم وزارة الداخلية ، كما كان على هامش فهم مقتضيات تحقيق مكاسب المغرب على صعيد العلاقات الدولية لما كان يطمح إلى جعل وزارة الخارجية حقيبة سياسية .أوراش المشروع الاجتماعي و النموذج التنموي و الأهمية القصوى للتواصل الجاد مع المواطنين و تنقية السياسة من الشوائب ، تستدعي إعادة هيكلة الإدارة الترابية لتصبح أكثر حضورا و كفاءة و قدرة على أجرأة تصور الدولة للإصلاح .كما أن تضاريس المعادلات الدولية يتطلب تعزيز أداء العمل الدبلوماسي بالخبراء في المجال و الذين لا يخضعون لتقلبات المشهد السياسي و الانتخابي كما هو عليه الآن.

المغرب في حاجة مرحليا ، و في انتظار أن تنضج شروط أخرى ، إلى ولاة و عمال أقاليم ذووا بروفايلات تجمع بين المهارة في المجال الاقتصادي و الحس الاجتماعي و القدرة على التوقع و على الإنصات و إلى رؤساء جهات من نخب تمدرست في العصامية و المشروعية و الحلال و تمرست في مجالات المال و الأعمال و التواصل و إلى منسقي فرق نيابية يتقنون لغة الاقتصاد و الاجتماع و يجعلون الوطن فوق الأحزاب و إلى تعزيز اختصاصات المراكز الجهوية للاستثمار و إدماج مدرائها في سلك العمال (les gouverneurs ) و إلى رجالات سلطة ينهلون من تعليمات الدولة و ليس من إغراءات المفسدين .كما أنه في حاجة إلى سياسة خارجية مبنية على قراءة دقيقة للخرائط الجيوستراتيجية و على حشد ناجع للتحالفات في الاقتصاد و السياسة و المصالح و إنجاز نبيه لاختراقات في جبهات الخصوم و إعادة الإمساك بزمام المبادرات على صعيد القضايا الساخنة في العالم

أكيد أن مغربا آخر صار ممكنا أكثر من أي وقت مضى و أن مرحلة جديدة تنبثق من صلب تراكمات عقود من السياسات و الصراعات و التجارب و المبادرات و الصعاب لتقطع مع حقل سياسي و اجتماعي موبوء و تقفز بالبلاد نحو الأفضل و نحو النقاء قد بدت معالمها في الأفق المنظور . رأس المال الوطني و الطبقة الوسطى و عموم الفئات الشعبية مقتنعون بالأهمية الحيوية للالتفاف أكثر و أكثر حول المؤسسة الملكية في انتظار التفافهم حول توافق تاريخي بين هذه المؤسسة و قوى فكرية و سياسية و اجتماعية ستفرزها أوجاع مخاض المرحلة بقوة قوانين التاريخ . المطلوب ، فقط ، ألا يذخر الحريصون على انتقالنا الديمقراطي لا جهدا و لا حزما و لا فرضا و لا سنة تقتضيهم المعركة ضد الفساد كي ننتهي من مرحلة التعايش التكتيكي مع اللوبيات إياها و ننتقل إلى مرحلة الحسم الاستراتيجي مع كافة أشكال و بنيات و عناوين و جيوب مقاومة الإصلاح .

هنا ، بالضبط ، يكمن ، في اعتقادنا ،جوهر الإصلاح و من هذا المنعطف الإجباري يجب العبور إلى مرحلة المؤسسات ذات المصداقية و التنمية ذات الوقع الاجتماعي و السياسة المتصالحة مع الناس .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى