رأي/ كرونيك

بيداغوجيا البغرير …

المجتمعات العاقلة تعتبر ان موضوع التعليم وما يتخذ فيه من قرارات، موضوع لا مجال فيه للسجال والمزايدة، ولا للتجريبية الفجة؛ لأن الخطأ فيه يكون مكلفا جدا مهما بدا لنا بسيطا وعابرا. لا أشك أبدا في أن مسؤولينا يعرفون هذه الحقيقة. ومع ذلك فقد تصرفت اجيال منهم، وما زالوا يتصرفون بعكس ما تقتضيه تلك المعرفة: منذ عقود وهم يمارسون هذه التجريبية ويبررونها. ولو أحسنا الظن بهم لقلنا إنهم ينساقون وراء دعاوي من يسوغها لهم ويزينها في أعينهم، من أهل الاختصاص. ما أن يسمع أحدهم عنوانا من عناوين الأساليب البيداغوجية يتداول في ركن من أركان الأرض حتى نسارع إلى التهليل له وتنزيله عندنا، دون أن نستحضر سياقاته الثقافية والاجتماعية، ولا مدى ملاءمته لمتطلبات ومميزات نسقنا التربوي ومؤهلاته وإمكانياته الفعلية… تكون النتيجة دائما هي التعامل مع الأساليب البيداغوجية التي ابتكرها الأخرون كشعارات وعناوين نلوكها بكثير من اليقينية قبل أن نفاجأ بان من اقتبسناها منهم قد وضعوها في الرف وانتقلوا إلى غيرها. هذا ما يبدو ظاهريا. لنحفر قليلا تحت السطح..

خلال ثلاثة عقود، سمعنا عن بيداغوجيا الأهداف، ثم بيداغوجيا الكفايات، فبيداغوجيا الإدماج… واليوم ها نحن ندخل عصر بيداغوجيا البغرير فيما يبدو. وفي كل مرة يقال لنا: هذا ما يفعله الكنديون، أو هذا ما يفعله البلجيكيون.. والحقيقة أن الكنديين والبلجيكيين بريئون من هذه المزاعم التي ليست إلا محصلة عمل “خبراء” و”استشاريين” يعملون مع مكاتب دراسات واستشارات مهارتها الأساسية هي تعليب النتائج المراد الوصول إليها وتقديمها في شكل جداول ورسوم بيانية ملونة وخلاصات وتوصيات سبق أن تم تضمينها في الحدود المرجعية للدراسات الاستشارية المزعومة.

كل من زاول المسؤولية في الإدارة يعرف علاقتها المتفاقمة مع مكاتب الدراسات والاستشارات، هذه العلاقة المتسمة بشكل من أشكال الهيام المرضي. يعرف كل المسؤولين أن التوجه إلى مكاتب الدراسات لطلب الاستشارة يتطلب التحديد الدقيق للأسئلة التي على الاستشارة أن تجيب عنها، وضرورة التزام الإدارة بتقديم جميع المعلومات للمكتب الذي سيقع عليه الاختيار وتزويده بلوائح الأشخاص الذين يطلق عليهم في مصطلحات هذا الميدان “الأشخاص المصادر”، وبكل الوثائق والدراسات التي سبق إنجازها، وبصيغة النتائج المتوخاة وشكلها… هذه العناصر كلها هي ما يطلق عليه اسم: “دفتر المواصفات الخاصة” الذي يشكل جزءا من دفتر التحملات. وتشكل الإدارة بعد ذلك لجنة للقيادة تكون مهامها متابعة إنجاز الدراسة وتقبل نتائجها والمصادقة على مطابقتها للمعايير المضمنة في الحدود المرجعية ودفتر المواصفات الخاصة.

هكذا نرى بوضوح أن مخرجات الدراسات والاستشارات مرتبطة بشكل وثيق بمدخلاتها ومبنية عليها. وفي غالب الأحيان لا تكون نتائج الاستشارة إلا صدى لما كان المسؤولون يتوقعونه أصلا أو يتوخون الوصول إليه ويحددونه في أسئلتهم وخلال فحص نتائج الدراسة مع لجنة القيادة أو خلال تحديد الإشخاص المصادر. فتكون مهمة مكتب الدراسات إذّاك أقرب إلى تغليف النتائج في ورق الهدايا وتقديمها لطالب الاستشارة. وإذا قسنا هذا على مجال التربية والتعليم، أمكننا القول بدون تردد، أن النتائج والتوصيات التي تسلمها مكاتب الدراسات للإدارة التعليمية هي مجرد صدى لما سبق لهذه الإدارة أن قامت به من “تشخيص”، وليست في الحقيقة سوى تبرير لما هي مزمعة على اتخاذه من قرارات.

تريد الإدارة التعليمية أن تفرنس تدريس العلوم، فتستنتج لها مكاتب الدراسات أن مشكلة المشكلات هي التعليم بالعربية.. تدعي الإدارة التعليمية أنها تريد توحيد لغة تدريس العلوم، فتقرر فرنسة التعليم الابتدائي والثانوي، (عشر سنوات) عوض تعريب التدريس الجامعي (ثلاث سنوات).

تريد الإدارة التعليمية أن تجهز على التعليم العمومي، فتستنتج لها مكاتب الدراسات أن هذا التعليم يعرف وضعا كارثيا يجعل المواطنين يقبلون على التعليم الخاص لأنه أكثر جودة وأدعى إلى الطمأنينة.

تريد الإدارة التعليمية أن تفكك علاقة المتعلمين باللغة العربية المعيارية فتزعم أن البيداغوجيا تقتضي ربط المتعلم بلغة البيت والشارع كي يندمج في محيطه وبيئته. ويبرر لها الاستشاريون هذه الخطوات بعناوين براقة من قبيل: “بيداغوجيا الإدماج”…

هل قلت: الإدارة التعليمية؟..

حان الوقت كي أسمي الأشياء بأسمائها:

الإدارة التعليمية ليست سوى واجهة وأداة يستعملها التحالف المصلحي المتنفذ والحاكم، والذي يجعل من الريع اللغوي الذي تمثله الفرنسية أداة لاستدامة تحكمه في سبل وآليات إعادة توزيع الثروة وفرص الترقي الاجتماعي. لا يتعلق الأمر في تقديري بأي سجال إيديولوجي حول رمزيات اللغة، بل يتعلق بنقاش ضروري لفضح أساليب هذا التحالف الرامية إلى تعميق الفوارق الطبقية وتكبيل قدرات هذا الشعب ورهن مستقبله. أفكر الآن في تلك الفئة التي أطلق عليها عبد الرحمن اليوسفي في مذكراته اسم “القوة الثالثة”، وأشار إليها حسن أوريد في كتابه عن الثورة الثقافية بعبارة المتنفذين الذين استولوا على كل الدواليب، وما زالوا يسعون إلى إحكام قبضتهم على المنافذ كلها.

اليقظة.. اليقظة.. على كل هيئة التدريس والمربين الحقيقيين، أبناء هذا الشعب أن يقفوا في وجه هذه الديماغوجية الجديدة ويرفضوا التحول إلى أدوات لتنفيذها. علينا جميعا أن نفكر بجد في سبل تنظيم حركة المقاومة التربوية. ومن واجب كل إطارات المجتمع الحية أن تتصدى لهذه التجريبية العقيمة وترفض الرضوخ لها. على ممثلي الهيئات التعليمية والآباء في المجلس الأعلى للتربية والتكوين وفي البرلمان أن يفرضوا فتح نقاش وطني واضح حول مستقبل أبنائنا، يكشف فيه كل طرف عن وجهه الحقيقي وما يحركه من أهداف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى