رأي/ كرونيكسياسة

عن اللاشيء…للحائرين والحالِمينَ بِوَطَنِيّاتٍ جَديدَةٍ.. اليوم مع وَطَنِيّاتٌ مُتَشَظِّيَّةٌ يائِسَةٌ.. (الحلقة 4 والأخيرة)

تقْتَرِحٌ “عَنِ اللاَّشَيْءِ…” بعضَ التَّأَمُّلاّتِ في فكرِ الوَطَنِيّاتِ المُتَخَيَّلِ، وفي عناصِرِهِ الثَّقافِيَّةِ والفَنِّيَّةِ والإِنْسانِيَّةِ في الْحَجْرِ وَبَعْدهُ؛ ونورِدُها في:
– لاشَيْءَ..
– وَطَنِيّاتٌ أُحادِيَةٌ بِدائِيَّةٌ..
– وَطَنِيّاتٌ تَعَدُّدِيَّةٌ حَديثَةٌ..
– وَطَنِيّاتٌ مُتَشَظِّيَّةٌ يائِسَةٌ..

تأملات قاسم مرغاطا (الحلقة الرابعة والأخيرة)

وَطَنِيّاتٌ مُتَشَظِّيَّةٌ يائِسَةٌ….
ــــــــــــــــــــــــــــــ

لعلَّها مُعادَلَةُ جَديدَةٌ وَعَصِيَّةٌ، في السُّلوكِ والقيمةِ، أنْ نَتَّحِدَ في وضعِ الكِماماتِ حمايةً وأماناً للجسدِ المادِّيِّ، وأنْ نُكافِحَ، في اتِّحادٍ أيضاً، لإسقاطِ بعضِ الأَقْنِعَةِ التَّقْليديَّةِ رهاناً لتحقيقِ جَسَدٍ رمزيٍّ مَعْنَوِيٍّ حَديثٍ وَعَقْلانِيٍّ وَتَنْويرِيٍّ…

إِنَّ اعتبارَ الكِماماتِ ضرورةً صحيَّةً لا يمكنُ أنْ يَسْتَتْبِعَهُ وضعُ أقنعةٍ أبدِيَّةٍ، وَمِنْها قِناعُ الدَّجَلِ والعِرافَةِ، وقِناعُ الغَباءِ والرّداءةِ، وقِناعُ التَّجْييشِ والتّهويلِ، وقِناعُ الشعبويَّةِ والذُّبابيَِّةِ…

إنَّ تَرْسيخَ ثقافةِ العَقْلِ والعِلْمِ والحُرِّيَةِ والكَرامَةِ، وإِنَّ التحرُّرَ من أقنِعَةِ التّخلُّف والجهلِ والبُؤْسِ الفكريِّ شروطٌ موضوعيَّةٌ لا يُمْكِنُ أنْ تُعوَّضُ بِعُروضِ الصِّحَّةِ والأَمْنِ والاقتصادِ، وإنَّ التعبئةَ العموميَّةَ لا يمكنُ أنْ تكونَ عَرْضاً وطنيّاً مَدَنِيّاً من أجلِ التحكُّمِ الفِعْلِيِّ والرَّقْمِيِّ..
إنَّ التَّحَكُّمَ في الواقعِ وفي الخيالِ وفي الافْتِراضِ لا يمكنُ أنْ يُوَفِّرَ أيَّ أفقٍ لوطنيّاتٍ حَديثَةٍ وإنسانِيَّةٍ أوْ يُنْشِئَ أيَّ إحْساسٍ بالانتماءِ لأوطانِ جريحةٍ بَعْدَ الجائحةِ..
لا يمكنُ القبولُ بمعاجلةٍ مَغْلوطةٍ للوقائِع وللوَضْعِيّاتِ في الجائحةِ وبَعْدَها، أوِ السُّكوتُ عن تآكلِ حُرِّيّاتِ الأفرادِ وحقوقِهِمْ، والانصياعُ وراءَ مطلبِ التَّضامُنِ الخاصِّ بِفِئَةٍ دون أخرى.. لابُدَّ من إقرارِ التّساوي في الواجباتِ وفي الحقوقِ، وليسَ القفزَ دائماً على الحائطِ القصيرِ كما تَتَصَوَّرُ مُخَيِّلاتُ السياسيِّينَ التَّعيسَةِ.. لَيْسَ هناك الصِّحَّةُ فقطْ، أوِ الأَمْنُ فقطْ، أوِ الاقتصادُ فقطْ، أوِ التَّضامُنُ فقطْ.. المبدأُ كلِّيٌّ لا يَتَجَزَّأُ.. والحُرِّيَةُ سَيِّدَةُ الرِّهاناتِ.. والواجباتُ قيمةً لا تنفصلُ عنِ الحقوقِ، والضَّرورَاتُ سياقاً لا تُهَمِّشُ المُساواةَ بين الأفرادِ والجماعاتِ والجُغرافيّاتِ والمُناخاتِ والألوانِ..

إِنَّ مُهِمَّةَ الوطنيِّينَ الجُدُدِ الأساسيَّةَ الفكريَّةَ والثَّقافِيَّةَ والعِلْمِيَّةَ تحريرُ التاريخِ القادِمِ منْ زَيْفِ شرعيّاتِ الانْغِلاقِ الوَطَنِيِّ، والاسْتِحْواذِ على ملامِحِ النّورِ في هذا التاريخِ، وهذهِ هيَ مهمَّةُ المناضلينَ الجُدُدِ….

وهمْ يُناضلونَ بلا رأسمالٍ… تائِهونَ، وحائرونَ، ومُحْبَطونَ، وبلا خُطاطاتٍ ولا برامجَ، فقطْ، همْ بورتريهاتٌ سوداءَ، وَرَقْصاتُ أَلَمٍ، وَسُخْرِيّاتٌ مَنْبوذَةٌ، ولغاتٌ مَقْموعَةٌ تَنْشُطُ في الواتْساب والميسنْجِر… ولكنَّ حُبَّهْمْ جارِفٌ لوطنيّاتِ التَّشَظِّي والخِفَّةِ والتَّعَدُّدِ والعَمَلِ والواجِبِ والشَّفافِيَّةِ والدّيمُقْراطِيَّةِ والمُساواةِ..
لمْ تَعُدْ في وطنيّاتِ التَّشَظّي، اليومَ، صالحةً قيمُ الحزبيَّةِ الضَّيِّقَةِ أوِ العِرْقِيَّةُ المقيتَةُ أوِ اللَّونيَّةُ المُسْتَفِزَّةُ أوِ العُنصرِيَّةُ البَغيضَةُ أو القوميَّةُ الشّوفينيَّةُ أو الدِّينيَّةُ المُحَرِّضَةُ الأحاديَّةُ المغلقةُ أو الوطنيّاتُ البدائيَّةُ الثَّقيلَةُ المُغْلَقَةُ… لمْ تَعُدِ كلُّها عَرْضاً مَدَنِيّاً حديثاً للوطنيّاتِ الثّالثَةِ في زمن الحَجْرِ وبعدَهُ…
لابدَّ من وطنيَّاتٍ جديدةٍ تَتَشَكَّلُ من أرحامِ هذه الدّيناميّاتِ الجديدةِ.. وطنيّاتٍ تقومُ على مَحْوِ الأشكالِ البِدائِيَّةِ من التعاقداتِ الوطنيَّةِ، والشَّكِّ في كُلِّ الدَّوائِرِ التي تَحْجُبُ الهمومَ الفِعْلِيَّةَ للوطنِ وللمواطنينَ….
وطنيّاتٍ تقومُ على إسقاطِ قناعِ الأُخْرَوِيَّةِ والإِحْسانِيَّةِ والرّيعِيَّةِ أيضاً.. ومواجهةِ الاسْتِباحاتِ الوطنيَّةِ السياسيَّةِ لبعض الكائناتِ الأبَدِيَّةِ التي تقف صانعةً الحواجزَ والمعيقات لكلِّ تَحَرُّرٍ…
سواء بتأليهِ الفقهاءِ المرجعِيِّينَ، أو بعِِبادةِ الوِصاياتِ الأَبَوِيَّةِ الحُكْمِيَّةِ، أو الخضوعِ لأحزابٍ حاكمَةٍ باسمِ التَّدَيُّنِ أو باسمِ المصلحةِ الوَطنيَّةِ العليا أو باسمِ شرعيَّةِ الماضي النِّضالِيِّ المُقَدَّسِ أو بالرُّكوعِ للنَّماذِجِ البَرّانِيَّةِ الخليجِيَّةِ أو الأجنَبيَّةِ باسم الدَّعْمِ الماليِّ المشروطِ ..
إِنَّ زعمَ الدِّفاعِ عن الوَطَنِ والمُسْتَضْعَفينَ وتمثيلِهِمْ لم يعدْ عَرْضاً مُغْرِيا أيضاً.. وإنَّ زعمَ خدمةِ الوطنِ والحِرْصِ عليهِ لم يعدْ استعارةً حجِّيَّةٍ بُرهانيَّةً مُثيرَةً سِوى للشَّفَقَةِ.. وإنَّ زَعْمَ التَّنْمِيَّةِ بصيغِها التَّقليديَّةِ، وتسويقِ المُسْتَقْبَلِ الواعِدِ لم يعدْ أُفُقاً واعداً بأيِّ شيْءٍ.. الوعودُ الكبيرةُ والأساطيرُ الاسْتِعاريَّةُ الوطنيَّةُ الكُبرى تتآكلُ تحت طائلةِ الجائحةِ… لم تعدْ هذهِ الأساطيرُ ذاتَ جاذبِيَّةٍ، وصارتْ عديمَةَ الإيحاءِ…
لم تعدْ، هذِهِ الوطنيّاتُ الثَّقيلَةُ والميِّتَةُ تقولُ شيئاً لجيلٍ جديدٍ تَشَكَّلَ في المَحَلِيِّ والكَوْنِيِّ معاً… مَطْلَبُهُمْ اليومَ، في هذه الجائِحَةِ، البحثُ عن أُفُقٍ إنسانِيٍّ لوطنياتٍ ثالٍثَةٍ مَدَنِيَّةٍ مُواطِنَةٍ أَساسُها الحُرِّيَّةِ والكرامَةِ والإنسانِيَّةِ والعَيْشِ الكريمِ في مواجهةِ أفكارٍ مُفْلِسَةٍ انتهتْ صلاحِيَّتُها، وها هيَ الآن تسعى إلى تَدْويرِ قَدَرِيَّتِها من خلالِ إعادةِ بناءِ الأساطيرِ القديمةِ في حُلَلٍ جديدةِ بذريعةِ الوباءِ والفَتْكِ…

المطالبُ، اليومَ في الحَجْزِ، وطنيّاتٍ ثالِثَةٍ، وقيمُها الخِفَّةُ والتَّعَدُّدِيَّةُ والدّيمُقْراطِيَّةُ والتَّنَوُّعُ والفُسَيْفِسائِيَّةُ والتَّهْجينُ.. خِفَّةٌ تُناضلُ للحلولِ مَحَلَّ الوطنيّاتِ الشّوفينِيَّةِ التَّقليدِيَّةِ.. وطنيّاتٍ تَعدُّدِيَّةٍ أساسُها العملُ والعَرَقُ والجِدُّ والاجتهادُ والإبداعُ والكفاحُ والتَّساوي… وطنيّاتٍ مُتَشَظِّيَّةِ الظِّلالِ والملامِحِ الفَنِّيَّةِ والثَّقافِيَّةِ والفِكْرِيَّةِ وبديلاً مَوْضوعِياً لوطنيّاتِ الهبةِ والرّيعِ والانْتِظاريَّةِ والقَدَرِيَّةِ والرِّضى..

قدْ يبدو هذا التفكيرُ يائساً وقَلِقاً، لكنَّ هذا البُعْدَ المتشائِمَ والتّائِهَ هو ما يُكْسِبُنا المسافةَ العَقْلِيَّةَ لإنشاءِ شَيْءٍ من الفَرَحِ القادمِ في أوطانِنا الْجَريحَةِ… قدْ نُعاني في التَّعامُلِ مع هذا الواقِعِ المَحْجوزِ، وَفي تَقَبُّلِهِ وَمُسايَرَتِهِ وَتَجاوُزِهِ، ولكنَّهُ واقِعٌ عابِرٌ وعَشْوائِيٌّ وزائلٌ كيفما كانتِ التَّكلُفةِ الإنسانيَّةُ… كلُّ شيءٍ إلى زوالٍ… فلا تَخافوا من الحرِّيَّة.. وَلْيَكنْ زوالُنا ومَوْتُنا، ونحنُ نتنفَّسُ بعضاً من نسائمِ الحُرِّيَّةِ ..
لَيْسَ القَدَرُ شيئاً آخرَ سوى الواقِعِ المَخْدومِ في استعارةِ سُلْطَةِ وطنيّاتٍ ثقيلةٍ عسيرةِ الهضمِ والتَّحَمُّلِ… ولا وجودَ لمُمْكناتِ أوطانٍ ومواطناتٍ ومواطنينَ أحرارٍ بِمَعْزِلٍ عنْ تفكيكِ هذهِ الوطنيّاتِ البدائِيَّةِ الثقيلة، وَضِمْنَهُ الثَّوْرَةُ على كلِّ وَسائِطِها السِّيّاسِيِّينَ والاجتماعيِّينَ والثَّقافِيِّينَ والفِكْرِيِّينَ والإعلاميِّينَ الذين لم يتحرَّروا من مرحلةِ ما قبلَ الجائحَةِ….
وفي واقِعِنا المُمْكِنِ والافتراضِيِّ، في الحَجْزِ، وفي الخوفِ من الجائحةِ وبعدها، أيادٍ تصنعُ بعضاً من الضَّوْءِ، وشيئاً من الفَرَحِ، لإنتاجِ حياةٍ جديدةٍ من الموتِ والرَّمادِ، ومنْ كُلِّ هذا الخرابِ الإنسانيِّ الهائِلِ.. لعلَّنا نُصادِفُ، يوماً ما، وطنيّاتٍ جديدةً ثالثةً أفقيَّةً ضامنةً للتَّوازِنِ والتَّعَدُّدِ والحُرِّيَّةِ والمُساواةِ… وتمكِّنُنا من إدراكِ بعضٍ من بقايا إنسانيَّتِنا المتوتِّرَةِ، فَنَقْبَلُ فقطْ، بمنْ يُحَرِّرُنا وَيُحِبُّنا حُبّاً لطيفاً بلا ثِقْلٍ ولا شَرْطٍ، ونحنُ نقفُ تائهينَ حائرينَ ومُتْعَبينَ أمامَ قسوةِ الوباءِ والمَرَضِ والخوْفِ والرُّعْبِ والانتظارِ والتَّرَقُّبِ والموتِ..
عَصيبَةٌ وَمَريرَةٌ ومُرْهِقَةٌ وَمُكَلِّفَةٌ هذِهِ الحياةُ، تحتَ الحَجْرِ والحَجْزِ، فَلا تَطْلُبوا منّا التَّحَوُّلَ إلى جِبالٍ صَلْبَةٍ أوْ أَصْنامٍ ثابِتَةٍ أوْ عَبيدٍ أَبَدِيِّينَ.. ولا تَقْطَعوا الأَيادِيَ المُرْتَعِشةَ، ولا تُطْفِئوا الضوءَ الخافِتَ القَليلَ..
في عالمِ اللاَّشَيْءِ…الذي يُخَيِّمُ عَلَيْهِ الموتُ والرُّعْبُ والقَلَقُ، تَظْهَرُ القَسْوَةُ الكَبيرةُ والهزيمةُ الأَكْبَرُ في مَحْوِ ما هُوَ عَفْوِيٌّ تَطَوُّعِيٌّ فَرْدِيٌّ تَاَمُّلِّيٌّ صامِتٌ في الحياةِ الإِنْسانيَّةِ، ليُهَيْمِنَ ما هُوَ إِجْبارِيٌّ تَحَكُّمِيٌّ فَوْقِيٌّ قَدَرِيٌّ ضَوْضائِيٌّ، وَيضيعَ الرُّعْبُ والحَجْرُ والتَّرَقُّبُ هباءً، وكأنَّنا في زَمَنٍ عَوْدٍ على بَدْءٍ، ولا أَمَلَ لنا في طَوِقِ نَجاةٍ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى