الرئسيةثقافة وفنون

موسيقى الثلاثي جبران هي موسيقى فلسطين..كاتبة مصرية تفصل في علاقة محمود درويش بالثلاثي جبران وآلة العود+فيديوهات وصور

بقلم الكاتبة المصرية مروة صلاح متولي

بين الثلاثي جبران وآلة العود صلة عميقة ذات تاريخ قديم، وروابط وجدانية وروحية لا تنفصل ولا تتفكك، ورحلة فنية انطلقت من فلسطين، ولا تزال تتجه صوب الآفاق البعيدة، لتنثر لآلئ الموسيقى وأنغام العود في أرجاء العالم كله.

يتكون هذا الثلاثي من ثلاثة أعواد وثلاثة أشقاء، هم سمير ووسام وعدنان، وعندما يمسك كل منهم عوده ويحتضنه ويداعب أوتاره، تنبعث ألحان رائعة النغم، وأصوات موسيقية فريدة متميزة، ناتجة عن التقاء الأعواد الثلاثة، وهو ما لا تسمعه الأذن كثيراً، أو ربما لم تسمعه من قبل إلا لدى الثلاثي جبران، لأنه عادة ما ينفرد العود ويكون وحيداً، أو في صحبة آلات موسيقية أخرى، ولا يكون في مجموعات كالكمان مثلاً. لكن لدى الثلاثي جبران يصاحب كل عود شقيقه بتناغم مذهل وانسجام كبير، ويبدو سعيداً بتلك المصاحبة.

 

موسيقى من فلسطين

على أرض فلسطين الغالية نشأ سمير ووسام وعدنان في بيت ثقافة وفن، ذلك أنهم يمثلون الجيل الرابع في عائلة اختصت بصناعة العود والعزف عليه، وعاشوا بين أب وأم، كانت الموسيقى والغناء وصناعة الأعواد جزءاً أساسياً من حياتهم اليومية، وقد ورث الثلاثي هذه الصناعة وتلك المواهب أيضاً، إذ يقومون بصنع الأعواد الثمينة التي لا مثيل لها. كان الأشقاء الثلاثة على موعد مع الأسفار والارتحالات، التي بدأها الشقيق الأكبر سمير بالسفر إلى القاهرة من أجل الدراسة، ثم أقاموا جميعاً في فرنسا، ومنها يسافرون لتقديم موسيقاهم على أكبر وأهم مسارح العالم في مختلف البلدان.

وموسيقى الثلاثي جبران هي موسيقى فلسطين النابضة بكل ما هو فلسطيني، روحاً ومعنى وموقفاً، وهي موسيقى عربية خالصة، شرقية الطابع أصيلة التكوين، لكنها موسيقى عالمية أيضاً، تستطيع أن تخاطب الجميع وأن تصل إليهم.

يبدع الثلاثي في تأليف القطع الموسيقية الخاصة بهم، وفي عزفها بإتقان تام ومعرفة عميقة بأسرار وتقنيات العزف على آلة العود، وخلق الحوار النغمي بين الأعواد الثلاثة، سواء تزامنت الأصوات أو تعددت واختلفت.

ولغة الثلاثي هي لغة الموسيقى والأنغام، فمؤلفاتهم في الأصل مؤلفات موسيقية بحتة، لا يصاحبها الغناء، لكنهم التقوا بالكلمة ولغة الشعر على أروع ما يكون، عندما التقوا بالشاعر الفلسطيني محمود درويش، ورافقوا شعره بموسيقاهم لأكثر من اثني عشر عاماً، ولم يتوقف مشوارهم مع محمود درويش إلا بوفاته سنة 2008، بل ربما لم يتوقف، فلا يزال شاعر فلسطين وصاحب كلمتها العالية حاضراً في أعمالهم، إما بتسجيلات صوتية تضمنتها ألبومات صدرت بعد وفاته، كقصيدة «خطبة الهندي الأحمر» في ألبوم المسيرة الطويلة، وهو الألبوم الذي يضم أيضاً مشاركة مع الفنان الإنكليزي روجر ووترز، نجم فريق بينك فلويد، والموسيقي والمغني ومؤلف الأغاني البارع، الذي يعلن عن مواقفه الداعمة لفلسطين، والرافضة لظلم وإجرام الاحتلال الإسرائيلي، الذي لا يرى فيه سوى احتلال ويرفع علم فلسطين في حفلاته، مهما طاله من اتهامات بمعاداة السامية. ويكون درويش حاضراً أيضاً بعناوين معزوفات مستوحاة من أشعاره، وقد تكون الموسيقى بأكملها جاءت بإلهام من شعر محمود درويش. ولا شك في صعوبة أن يتجاوز الثلاثي تأثير شاعر كدرويش، وتجربة كتجربتهم معه.

اللقاء الأول بين الثلاثي ودرويش

 

وعن اللقاء الأول بين الثلاثي جبران ومحمود درويش، يروي سمير جبران في أحد حواراته التلفزيونية، أن المرة الأولى التي رأى فيها محمود درويش وصافحه، كانت في عزاء الكاتب والأديب الفلسطيني إميل حبيبي، صاحب الأعمال الخالدة من روايات ومسرحيات، كرواية «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» ومسرحية «لكع بن لكع» وغيرهما من الأعمال الأدبية الرائعة. في الناصرة كان إميل حبيبي جاراً مقرباً من آل جبران، وكان البيت الجبراني مفتوحاً لتلقي العزاء في أديب فلسطين الكبير. أما اللقاء الثاني فكان في فرنسا، وتم على يد السفيرة الفلسطينية ليلى شهيد، التي إليها يعود الفضل في الجمع بين الشعر والموسيقى، رغم أن محمود درويش لم يكن موافقاً أو متحمساً للفكرة في بداية الأمر، كما يروي سمير جبران في حوار مع قناة فرنسا 24، كان هذا اللقاء سنة 1996 حيث كان مقرراً أن يقدم محمود درويش أمسية شعرية هناك، وأن يقدم الثلاثي جبران أمسية موسيقية في المكان نفسه والليلة نفسها، ولم يكن هذا اللقاء سهلاً، إذ يقول سمير: «لما التقيت مع محمود درويش قبل بنصف ساعة من الأمسية وبخني، وقال لي أنا ما بدي حد يرافقني في العود، أصلاً ما بدي وسيط للشعر ليصل للمتلقي، بس ليلى شهيد ورطتني فيك، فأطلب منك أن تعزف تلات دقايق فقط، مش أكتر من تلات دقايق في فواصل شعرية، ولما بقول شعر ممنوع تعزف ولا أي نغمة على آلة العود».

محمود درويش

ويضيف سمير جبران أنه قام بالعزف لمدة تقل عن ثلاث دقائق، وأنه كان متوتراً للغاية لأن محمود درويش قال له أيضاً: «إذا بتعزف أكتر من تلات دقايق بنزلك عن المسرح، وإذا بتعزف وقت ما بقول شعر، كمان بنزلك عن المسرح». لكن ما حدث بعد ذلك كان جميلاً ومدهشاً، فقد غيّر الشاعر الكبير رأيه أثناء الأمسية، ورقّ قلبه للموسيقى، وطلب من سمير جبران أن يواصل العزف، لترافقه الموسيقى لمدة ساعتين متواصلتين في تلك الليلة، ولتظل ترافقه طوال ثلاثة عشر عاماً تقريباً، أي حتى نهاية حياته، وقبل موته كانت هناك أمسيات مقررة مع الثلاثي جبران، لكنها أمسيات لم تتم للأسف. أما تسجيلاته مع الثلاثي فإنها باقية لتخليد تلك التجربة الفريدة، ولتمنح المتعة الصافية، والجرعة الثقافية الرفيعة للجميع، ولتثبت دقة إحساس السفيرة الفلسطينية ليلى شهيد وقوة رؤيتها، عندما شعرت وأدركت أن هذه الموسيقى يجب أن تجتمع مع هذا الشعر، وكانت سبباً في تحقيق هذه التجربة الشعرية الموسيقية الرائعة، التي وإن كان محمود درويش رافضاً لها أو متردداً بشأنها في البداية، فإنه هو من اختار بعد ذلك وبقراره الحر، أن يستكمل هذا المسار وأن يحتفظ بتلك الموسيقى إلى جانبه دائماً وحتى نهاية العمر. وكيف لشاعر مثل محمود درويش ألا تتناغم روحه مع الموسيقى، وألا يألف صحبتها؟ فالموسيقى جزء أصيل من موهبة محمود درويش، لكنها موسيقى يخلقها بالكلمات والحروف.

لصوت محمود درويش جلال ورهبة، وفيه شاعرية فذة طبيعية غير مصطنعة، كما أن فيه من القوة والحيوية، ما يدل على قلب صامد ينبض بالأمل رغم كل شيء، وعقل يدرك ضرورة التشبث بهذا الأمل رغم كل شيء. وما أجمل هذا الصوت حين يهدأ ويطمئن، وحين يثور ويزأر، كأنه يريد أن يصرخ في وجه الظلم والجور، وأن يقيم الدنيا ولا يقعدها.

تحاور الشعر والموسيقى

عندما يستمع المرء إلى أعمال الثلاثي جبران مع محمود درويش، يقول ما أكرم الموسيقى وما أحلى شعر درويش، وما أجمل الإصغاء إلى صوت شعري يرد عليه صوت موسيقي والعكس، وما أجمل أن يتبادلا مشاعر الحب والألم والزفرات الحارة، وانتفاضات المقاومة الوطنية. وقد يتساءل المرء أيضاً عندما يستمع إلى هذه الأعمال، هل يقوم الثلاثي بتلحين شعر محمود درويش؟ أم إنهم يترجمون شعره إلى لغة الموسيقى؟ أم يصدرون ألحاناً مستوحاة من قصائده وحسب؟ أما التلحين فهو مستبعد، ولا شك في وجود شيء من الترجمة والاستلهام، لكن هذا ليس كل شيء. فما يفعله الثلاثي هو موازاة موسيقية لشعر محمود درويش، فالمستمع يجد مساراً موسيقياً ومساراً شعرياً، وفي رحلتهما تحدث التقاطعات والتحاورات، والانفعالات المتبادلة وامتزاج المشاعر. ويمكن وصف هذه الأعمال بأنها موسيقى عاشقة لشعر محمود درويش، وما يجود به هذا الشعر من معان، وأنها أيضاً موسيقى محظوظة بمصاحبة صوت شاعر فلسطين الكبير، الذي حمل قضية بلاده وصار رمزاً مهماً من رموزها الخالدة. يطلق محمود درويش كلماته، فيبذر في قلوب الناس أملاً وصموداً ومقاومة، فهو روح فلسطينية، وكلمة فلسطينية ملأت أسماع الدنيا، مرتحلة من بلد إلى بلد ومن أرض إلى أرض، وفي أكوان الشعر وكواكبه، يظل محمود درويش شمساً ساطعة.

لصوت محمود درويش جلال ورهبة، وفيه شاعرية فذة طبيعية غير مصطنعة، كما أن فيه من القوة والحيوية، ما يدل على قلب صامد ينبض بالأمل رغم كل شيء، وعقل يدرك ضرورة التشبث بهذا الأمل رغم كل شيء. وما أجمل هذا الصوت حين يهدأ ويطمئن، وحين يثور ويزأر، كأنه يريد أن يصرخ في وجه الظلم والجور، وأن يقيم الدنيا ولا يقعدها. كان محمود درويش شاعراً بمعنى الكلمة، الشعر فنه والكلمة معشوقته، وكان صوته أحد أركان سلطانه الشعري، فعندما يقف محمود درويش يلقي شعراً، فهو يلقي الشعر حياً مكتمل الحياة، لا موات فيه ولا ضعف ولا فتور، وهو ما لا نجده كثيراً لدى الشعراء الآخرين. وما أقوى التدفقات الشعورية الجارفة في إلقاء محمود درويش، التي تساعد على إظهار المزيد من المعاني والأخيلة الكامنة في شعره. لم يعش محمود درويش في عصر من عصور الشعر الزاهية، لكنه كان وحده عصراً شعرياً زاهياً، وقد أنقذ الشعر العربي من الغربة في وقت من الأوقات، وجعل الألسن تردد من ورائه بعض الأبيات بعد أن تحفظها القلوب، وجعل الناس أيضاً يتغنون بالشعر البليغ ويتناشدونه. وفي صوت محمود درويش موسيقى عفوية وإيقاعية متميزة، تظهر وهو يلقي جميع شعره على اختلاف تعابيره وأغراضه، ويتميز إلقاؤه بقوة اللفظ وسلامة النطق، وسبك التنغيم والإيقاع والوقفات الحازمة، وحسن التعبير بالصوت عن معنى وإحساس كل كلمة، والتقطيع الجيد للعبارات وللكلمة الواحدة أيضاً.

تتعدد أعمال الثلاثي جبران مع محمود درويش، وتختلف في تركيبها وشكلها ونظامها الفني، فتارة تبدأ الموسيقى ثم يدخل صوت محمود درويش، وتارة أخرى تبدأ القطعة بالإلقاء الشعري ثم تصاحبه الموسيقى. وهناك الكثير من قصائد محمود درويش التي يمكن سماعها بصوته مع موسيقى العود وعزف الثلاثي جبران، ومن أشهر هذه القصائد وأجملها، قصيدة «انتظرها» التي يقول مطلعها: «بكأس الشراب المرصع باللازورد انتظرها.. على بركة الماء حول المساء وزهر الكولونيا انتظرها.. بصبر الحصان المعد لمنحدرات الجبال انتظرها.. بذوق الأمير الرفيع البديع انتظرها». يلقي محمود درويش هذه القصيدة الرائعة، على وقع موسيقى عذبة رقيقة ذات إيقاع شرقي، تبدأ بضربات العود واهتزازات أوتاره لمدة دقيقة تقريباً، ثم يدخل صوت محمود درويش، وتتجه الموسيقى نحو تنويعات خفيفة، لا تخلو من بعض الخفقات الشعورية، ويشعر المستمع بأن هناك تكرارا ما في الموسيقى، يوازي تكرار كلمة انتظرها في القصيدة وما تلعبه من دور في التحكم في الإيقاع، وتعبر أصوات العود ونغماته عن درجات الشعور المختلفة في القصيدة، فترقّ في لحظات معينة، وتقف كما يقف الشاعر عندما يقول «خاتماً خاتماً» على سبيل المثال، وتتصاعد الأنغام بعد أن يقول محمود درويش «موتك المشتهى» لينعم المستمع بدقيقة أخرى من الموسيقى الخلاّبة. وفي تسجيل «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» تبدأ الموسيقى بثيمة شجيّة مع الإيقاع الشرقي، وتتكرر هذه الثيمة لأكثر من مرة، إلى أن يبدأ محمود درويش في إلقاء قصيدته بصوت هادئ وحزين إلى حد ما، ويقول: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة..

تردد إبريل.. رائحة الخبز في الفجر.. تعويذة امرأة للرجال.. كتابات أسخيليوس.. أول الحب.. عشب على حجر.. أمهات يقفن على خيط ناي.. وخوف الغزاة من الذكريات». ومن أجمل أبيات هذه القصيدة التي يلقيها محمود درويش بإحساس لا مثيل له، تلك الأبيات التي تقول: على هذه الأرض ما يستحق الحياة.. على هذه الأرض سيدة الأرض.. أم البدايات.. أم النهايات.. كانت تسمى فلسطين.. صارت تسمى فلسطين.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى