رأي/ كرونيك

قيس سعيد: هل سيحرك المغرب الكبير من جديد؟

نزار بولحية: كاتب وصحافي من تونس

الرئيس التونسي الجديد مختلف عن كل من سبقوه. وهذا الأمر جلي وواضح. فحتى المنصف المرزوقي الذي قد يشاركه بعض الخصال، لم يحز على كل ما ملكه من أوصاف، وقدرا من الشعبية، يوازي ما حصل عليه قيس سعيد. لقد أعلن الأستاذ الجامعي منذ البداية، أن مثله الأعلى لن يكون لا المهاتما غاندي ولا نيلسون مانديلا ولا شارل ديغول ولا أي زعيم شرقي أو غربي آخر، بل فقط ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب.

ولم يكن مثل ذلك الإعلان بالأمر البسيط والهين في بلد مثل تونس، كان بورقيبة ومن بعده يصرون على شده بقوة إلى الضفة الشمالية ولو بالرموز والأسماء. لكن سيكون أمام سعيد إن هو أراد أن يقتفي سيرة الفاروق، ويتبع أثره، أن يفعل الكثير. غير أنه لن يجد نفسه مجبرا على أن يُدخل مثلا تحويرا واسعا على ملامح وجهه، أو أن يتخفى في زي آخر، ويتنكر فيظهر كفقير أو شحاد.

وهو لن يضطر أيضا لأن يخرج في عتمة الليل، وفي غفلة من الأنظار إلى بعض الأماكن القصية، أو غير المأهولة ليعرف عن كثب ما يعانيه شعبه. فالرجل كسر باكرا تلك الصورة النمطية للمسؤول الرفيع، الذي يضع حاجزا ومسافة بينه وبين الناس، ولا يقترب منهم إلا في بعض المناسبات، حين يتعلق الامر بأداء دور في مسرحية من تلك المسرحيات الرديئة، التي تنظمها المخابرات ويحشد لها في الغالب أفراد من قوى الأمن، يتبارون في إظهار شتى أنواع الحب والتعلق والولاء بشخص الزعيم المفدى، الذي لم يخلق لا قبله ولا بعده.

ومنذ الأيام الأولى لفوزه في الانتخابات رآه الناس يدخل المقهى الشعبي الذي كان يرتاده في السابق، ويشرب قهوته، واقفا، بينما يواصل الحاضرون جلوسهم، وكأن وجوده بينهم لا يعني لهم شيئا محددا، أو لا يثير فيهم أي رغبة للتسابق للسلام عليه، أو رفع المطالب والشكاوى له، مثلما يحصل في الأفلام العربية القديمة، أو في تلك المسرحيات المخابراتية، ثم شاهدوه ايضا يقصد حلاقه المعتاد، ويتجمع حوله بعض المعارف والأصدقاء والأهالي للسلام عليه والحديث معه.

واكتمل المشهد في اليومين الأولين بدخوله مسجدا غير بعيد عن القصر لأداء صلاة الجمعة، الأمر الذي لم يعرف من قبل أن الرؤساء وكبار المسؤولين كانوا حريصين عليه.

ولكن السؤال الذي خامر التونسيين بقوة ليل الاربعاء الماضي، أي بعد أن استلم قيس سعيد مهامه رسميا على رأس الدولة، لم يكن فقط أين سيمضي الرئيس ليلته تلك، وهل أنه سيكون وفيا لوعد قطعه على نفسه، بأنه لن يسكن في قصر قرطاج، كما كان مفترضا، وسيعود إلى بيته في آخر الدوام اليومي، مثله مثل أي موظف حكومي، مع ما قد يسببه ذلك من قلق أمني واضطراب مروري، بل أيضا في ما إذا كان الرجل سيقدر على الحفاظ على اختلافه وتميزه، ويثبت على قناعاته، أمام ثقل ما وصفها هو نفسه بالأمانة، وأمام الضغط الذي سيسلط عليه من الداخل والخارج؟ وهل أن اختلافه سيساعده على إدارة شؤون الدولة والقيام بمهامه على أحسن وجه؟ أم أنه سيكون على العكس عائقا وعقبة كأداء تحول دون نجاحه المطلوب؟ وبقدر ما كان السؤال يلح في تونس، فإن صداه كان يتردد بالمثل في العواصم القريبة منها.

لا شك بأن قيس سعيد يدرك كل التعقيدات الداخلية والإقليمية ويعرف أنه يسير على حقل ألغام وأن أولويته الآن وجهده سينصبان على مسألة تشكيل الحكومة والانطلاق الفعلي في عملها

ورغم أن معظم الحكومات المغاربية، وعلى عكس الشعوب، توقعت أن يفوز في الرئاسيات، إلا أنها وقعت بالفعل في شبه حيرة أزاء الوافد الجديد على نادي القادة والرؤساء. فلم يكن قيس سعيد ابن المنظومة التي صعدت إلى الحكم في دول المغرب، منذ اكثر من نصف قرن، وهو لم يمارس السياسة بالشكل المعروف، أو يتسلق هرم السلطة عبر الطرق المعروفة، أي الانتماء لسلالة حاكمة، أو لمؤسسة عسكرية أو لحزب من الأحزاب.

ولأجل ذلك فقد كان صعوده مثيرا على عكس الظاهر، للقلق والارتياب. ولعله كان في نظر بعض المسؤولين المغاربيين شخصا منفلتا من قيود، هم لا يرون فيه الشخص القادر والمؤهل لأن يدير دفة الحكم في بلاده، فضلا عن أن يكون طرفا موثوقا، أو جديرا بالعمل والشراكة معهم.

لقد ترقبوا تصريحاته وأرادوا أن يعرفوا مواقفه، ولكنه ظل طوال حملته الانتخابية متحفظا ومتكتما وقليل الظهور الإعلامي. وربما اعتبرت بعض الإشارات الودية التي أبداها نحو الجزائر عندما قال، إنها ستكون وجهته الخارجية الأولى في حال فوزه، أو اتجاه ليبيا التي تمنى أن تتاح له الفرصة ليزورها، ثم حديثه بشكل عام عن ضرورة تفعيل اتحاد المغرب العربي، هي كل الخطوط الكبرى لرؤيته للتعامل مع جواره الإقليمي.

ولكن ما الذي كان جديدا في ذلك؟ ألا يقول كل القادة المغاربيين الكلام نفسه؟ ومن هو الرئيس التونسي الذي يمكنه أن يفعل العكس، فيدير ظهره للجارة الغربية الجزائر، أو يتجاهل الجارة الجنوبية الغربية ليبيا ويخرجها من حساباته؟ ثم ما الذي يطرحه قيس سعيد للوصول نحو ذلك الهدف بالذات؟ وهل انه سيكون قادرا مثلا على أن يكون وسيطا مقبولا في الملف الليبي، ويجمع الفرقاء إلى طاولة واحدة في تونس؟ وهل يستطيع ايضا أن يقرب بين المغرب والجزائر ويكون له موقف واضح وحاسم أزاء المسألة الصحراوية، التي لا يريد التونسيون عادة أن يورطوا أنفسهم فيها؟ قد يبدو من المبكر أن نعرف ما الذي سيفعله الرئيس الجديد. فحتى الآن لم يكشف عن كل الطاقم الذي سيعمل معه، ولم يعرف بعد من سيكون وزير خارجيته، ومن سيختارهم مستشاريه في الشؤون الدولية.
ولا شك بأن الرئيس الجديد يدرك جيدا كل التعقيدات الداخلية والإقليمية الموجودة أمامه، ويعرف أنه يسير على حقل ألغام، وأن أولويته الان وجهده سينصبان على مسألة تشكيل الحكومة والانطلاق الفعلي في عملها. كما أنه لن يكون منتظرا منه أن يخرج عما وصفها هو نفسه بثوابت السياسة الخارجية لتونس، ولكن الدور الذي يمكن أن يلعبه قيس سعيد بعد أن تتضح الصورة في الداخل سيكون رمزيا ومعنويا بالاساس. فهو على عكس نظرائه المغاربيين الاخرين يملك شرعية تتعدى حدود بلده، ولا يبدو محسوبا على فريق أو تيار، أو منحازا إلى محور دون آخر، وهذا ما سيسمح له بأن يقوم بدور في تقريب وجهات نظر الليبيين أولا، ثم الجزائريين والمغاربة لاحقا، وربما دعوتهم جميعا لحوار اقليمي، يوضع تحت رعايته في تونس.

وما سيساعده على ذلك، ان يحصل تغير سياسي في الجزائر يفرز رئيسا يحظى بالشرعية الشعبية المطلوبة، لأن أي شيء سيفعله قبل ذلك سيكون بمثابة الحرث في البحر. لكن هل ستثمر مساعي سعيد في حال حصولها عن نتيجة أم لا؟ المؤكد ان دوره لن يكون عابرا وسيحرك في كل الحالات المغرب الكبير من سكونه وربما يوقظه ايضا من سباته العميق.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى