الرئسيةحول العالمرأي/ كرونيك

الردع الفعَّال: رؤية استراتيجية لإعادة تشكيل قوة حلف “الناتو”

بقلم الباحث Anthony Cordesman

عرض: منى أسامة

يواجه حلف شمال الأطلسي (الناتو) في الوقت الراهن تحديات بارزة، كالسلوك العدائي الروسي الذي برز في حرب أوكرانيا، والتعاون الاستراتيجي الروسي- الصيني، والصعود العسكري والاقتصادي الصيني. مع ذلك، يحتاج الناتو إلى التركيز على ما هو أبعد من الصراع في أوكرانيا، لاسيما في ظل تجاهل دوره في تحديث القوات أو تبني قوات جديدة، بالتالي، من الأهمية بمكان التركيز على تخطيط قوة الحلف بالكامل وإنشاء مستويات فعالة للردع والقدرة الدفاعية للحلف، خاصة في المناطق القريبة من روسيا والصين.

في هذا السياق، يبحث أنتوني كوردسمان، محلل الأمن القومي بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في تقرير له بعنوان “الحاجة إلى تمرين تخطيط جديد لقوة الناتو”، إمكانية اقتراح تمرين فعَّال يمنح استراتيجية الحلف معنى حقيقياً، كما يفحص التحولات الواقعية في الإنفاق والقوات الخاصة بالناتو منذ عام 2014، وتأثير ذلك على قوات الدول الأوروبية، ويؤكد كوردسمان على ضرورة إعادة تشكيل قوة الحلف للتعامل مع الأحداث العالمية سريعة التطور، علاوةً على البدء في التخطيط لمواجهة التهديدات الروسية والصينية وغيرها من التهديدات العسكرية في المنطقة.

المفهوم الاستراتيجي:

يشير “المفهوم الاستراتيجي لحلف الناتو” إلى رؤية طويلة المدى تعكس تصور الحلف عن الأمن والتهديدات الإقليمية والدولية، وسبق أن أصدر الحلف هذا المفهوم في عام 2010، حيث تضمن عدة أهداف أبرزها إمكانية بناء شراكة استراتيجية مع روسيا، في المقابل يتجه “المفهوم الاستراتيجي” لعام 2022 نحو إمكانية التشغيل البيني للقوة التي تستفيد من التقنيات الجديدة والذكاء الاصطناعي، حيث يركز المفهوم الجديد على معالجة الفضاء السيبراني وتبني الملكية الفكرية والابتكار التقني ومواجهة التهديدات النووية والبيولوجية والكيميائية والإشعاعية الجديدة، علاوةً على التأثير الأمني لتغير المناخ.

كما يهتم المفهوم أيضاً بمعالجة عدد من المشكلات الرئيسية مثل الخسائر المستمرة لحلف الناتو في الجاهزية وقابلية الانتشار، بالإضافة للحاجة إلى الحفاظ على الردع النووي على أساس الحلف، والشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وتعزيز قوات أعضائه الجدد.

في الوقت نفسه، لا يعالج “المفهوم الاستراتيجي الجديد” الفوارق النسبية بين الدول أعضاء الحلف من حيث مستويات وهياكل القوة العسكرية الوطنية، والتكنولوجيا العسكرية، والإنفاق الدفاعي، إذ يتجاهل بشكلٍ واضح التعامل مع حقيقة أن كل دولة من دول الناتو لديها مستوى مختلفاً من التحديث والقوة والاستعداد. وفي سياق متصل، لا يدعو هذا المفهوم إلى تطبيق أي نمط لتحسين القوة على أساس الحلف ككل أو على مستوى الدول بشكل فردي.

ويرى كوردسمان أنه من الضروري اعتراف دول حلف الناتو بحاجتها إلى إحراز تقدم في تخطيط القوة يتناسب مع الاحتياجات والقدرات المنفصلة لكل دولة على حدة، لاسيما في ظل معاناة الدول الأعضاء من تحديات اقتصادية كبيرة جراء جائحة كوفيد-19، إلى جانب تكلفة العقوبات ضد روسيا، وزيادة التضخم العالمي.

الإنفاق الدفاعي:

الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ

يشير آخر تقرير لحلف الناتو حول الإنفاق العسكري في يونيو 2022، إلى أن هناك زيادات كبيرة في إجمالي الإنفاق العسكري بعد عام 2014، حيث انتقل الإنفاق من التخفيضات بنسبة 0.9٪ إلى 2.7٪ في 2012 – 2014 إلى زيادات من 1.7٪ إلى 4.9٪ من الناتج المحلي الإجمالي في 2015 – 2021، مع ذلك، لم يوضِّح تقرير الحلف مدى فاعلية هذه الزيادات بشأن تلبية احتياجات الناتو أو تصحيح المشكلات السابقة في دول معينة، أو معالجة الاحتياجات المستقبلية.

فعلى سبيل المثال، تُظهر تقارير التوازن العسكري الصادرة عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في الفترة ما بين (2014 – 2022) أن معظم دول الحلف أنفقت أقل بكثير من 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، وهي ألبانيا وبلجيكا وبلغاريا وكندا وكرواتيا والتشيك والدنمارك وفرنسا وألمانيا والمجر وإيطاليا ولوكسمبورغ والجبل الأسود وهولندا ومقدونيا الشمالية والنرويج والبرتغال ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وإسبانيا وتركيا، وذلك عبر تتبع الإنفاق الخاص لكل دولة منفردة (قبل الحرب الروسية في أوكرانيا 2022).

جدير بالذكر أن الدول أعضاء الحلف تحسب حجم الإنفاق بطرق مختلفة جذرياً، وبالتالي لا يمكن مقارنة النسبة المئوية للإنفاق العسكري لدولة ما مع أخرى من حيث التعريف أو التأثير على قدرة القوة، فعلى سبيل المثال، يخلص تقرير حلف الناتو 2022 إلى أن “لوكسمبورغ” هي الدولة الأكثر إنفاقاً على المعدات العسكرية، وذلك بالرغم أن هذه الدولة لا تملك قوات عسكرية ذات مغزى، مما يجعل البيانات المتعلقة بالنسب المئوية الإجمالية للإنفاق على المعدات بلا معنى.

بالنسبة للولايات المتحدة، فتعتبر من الأعضاء المؤسسين في حلف الناتو، وتلعب واشنطن دوراً مهماً عبر الحلف عن طريق التعاون مع بريطانيا وفرنسا، ودعم الدول الأصغر من أجل تطوير القدرات العسكرية، وأنظمة الفضاء والحرب المشتركة في جميع المجالات، ومقارنةً بالولايات المتحدة، تمتلك الدول الأوروبية بشكلٍ جماعي ستة أضعاف عدد أنظمة الأسلحة المستخدمة لنصف الإنفاق تقريباً.

بناءً على ما سبق، يرى كوردسمان أنه إذا أراد حلف الناتو تنفيذ المفهوم الاستراتيجي لحلف الناتو لعام 2022 بشكل صحيح، من الأهمية بمكان الاهتمام بالنقاط التالية:

– التركيز على المجالات الرئيسية لتحسين القوة، وليس على الإنفاق الدفاعي أو المعدات.

– إدراك أن كل دولة من الدول الأعضاء لديها نقاط قوة وضعف، كنتيجة للتفاعل مع الأحداث الدولية كانهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وصعود الصين، وتهديدات الإرهاب والتطرف.

– يجب أن يكون الهدف الرئيسي للحلف هو تدشين تخطيط للقوة يساهم في إحداث تغييرات في الإنفاق الوطني، وهو ما سيدعم المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف الناتو من خلال تطوير نهج قابل للتشغيل البيني لكل دولة منفردة من دول الناتو.

– وضع حد للإنفاق الذي يعطي الأولوية لدعم الصناعات الدفاعية الوطنية على الفاعلية العسكرية، ومن ثم الاهتمام بتحديث قدرات الانتشار، والجاهزية، والتركيز على التنسيق مع القوات العسكرية من دول الناتو الأخرى.

– الحاجة إلى تنفيذ تخطيط القوة على أساس كل دولة على حدة، بدلاً من النسبة المئوية المعيارية للإنفاق لكل دولة.

خبرة الحرب الباردة:

تعاونت الولايات المتحدة خلال الستينيات مع حلفائها من أجل وضع خطط خمسية وطنية تتضمن تقريراً تفصيلياً عن مستويات القوة والتحديث والاستعداد، كما قامت أيضاً بإنشاء “عملية” يتم مراجعتها من قبل كلٍ من قوات الناتو ولجنة تخطيط الدفاع المدني، ومع ذلك، لم تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون من الاتفاق على تشكيل تخطيط للحلف؛ إذ قاومت الدول الأعضاء أي مراجعة واقعية للمتطلبات والجهود الوطنية لكل دولة على حدة.

كما فشل الحلف في تدشين أرضية للدفاع الجوي الفعال الجماعي (NADGE)؛ لأن بعض الدول الأعضاء استخدمت البرنامج لدعم العمليات الجوية المدنية على حساب العسكرية، وأخيراً، لم يستطع الحلف إنشاء نظام دفاع صاروخي أرض – جو متكامل؛ بسبب التكلفة، بيد أن دول حلف الناتو وافقت على نشر صواريخ Pershing II وصواريخ كروز في ألمانيا الغربية عام 1983 رداً على نشر الاتحاد السوفييتي لصواريخ جديدة مثل SS-20 عام 1977.

مع ذلك، عملت الولايات المتحدة على تعزيز التخفيض المتبادل في مخزون الأسلحة التقليدية لحلف الناتو وحلف وارسو (الخاص بالاتحاد السوفييتي)، وفيما بعد، ساعدت هذه الجهود في تدشين معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا (CFE) بين الحلفين، وذلك في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة (علماً بأن روسيا قد انسحبت من التزاماتها بموجب هذه المعاهدة في عام 2015).

نحو تخطيط فعال:

كوردسمان

يرى كوردسمان أنه على حلف الناتو الاستفادة من دروس الماضي (فترة الحرب الباردة) وتطوير خطط القوة الوطنية التي تدعم أولويات الحلف الاستراتيجية، كما يجب على دول الحلف إجراء مراجعات سنوية مفصلة بشكل جماعي للقوى الوطنية والخطط التي تقيّم الحدود والأزمات الوطنية، كما يجب قبول حقيقة أن أعضاء الحلف لديهم مستويات مختلفة من الموارد وحجم العمليات، علاوةً على تباين قدرتهم على تطوير قوات متكاملة وقابلة للتشغيل المتبادل.

هناك حاجة أيضاً إلى تطوير تقييمات مستمرة لقدرات الناتو للتعامل مع روسيا والإرهاب والصين، كما يجب أن تتم مراجعة خطط قوات الدول الأعضاء (والتي تغطي فترة خمس سنوات على الأقل) بشكلٍ كامل على أساس متجدد، حيث يتم تحديثها كل عام لتعكس التغييرات الجذرية التي تحدث في التكتيكات العسكرية والتكنولوجيا، وفي المجالات الرئيسية مثل الدفاع الجوي والصاروخي والعمليات المشتركة في جميع المجالات والذكاء الاصطناعي والقوات النووية والتقليدية والمجالات الأخرى، والتي تم إبرازها في المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف الناتو.

ويختم كوردسمان التقرير بضرورة تركيز دول الحلف على الفاعلية من خلال التسوية والحوار بدلاً من التركيز على الحد من عبء وطني معين على حساب بقية الحلف، وهو ما قد يترتب عليه تغيير في مواقف الولايات المتحدة والدول الأوروبية. ويضيف أنه من الضروري اتباع نهج أكثر انفتاحاً وشفافية لحلف الناتو لتخطيط القوة والتقييم، ويمكن للولايات المتحدة أن تتخذ خطوة أولى رئيسية نحو تقييم دقيق للقوة الروسية والصينية، كما يجب أن تلعب دوراً أكثر استباقية في تحديد الأهداف لأجل مشاركة التقنيات الجديدة، مع تقديم مساعدة أكثر نشاطاً لشركائها الاستراتيجيين من أجل تطوير مناهج العمليات المشتركة في جميع المجالات.

وإلى جانب الجهود الأمريكية، يوصي كوردسمان بتعزيز جهود التخطيط لقوات الناتو بأكملها، ومنح طاقم الناتو العسكريين والدوليين دوراً رئيسياً في تقديم تقييمات لكيفية تتبع الخطط الوطنية مع أولويات الناتو، وإشراك كبار ممثلي الدول في عملية تخطيط القوة الوظيفية. وفي سياق متصل، يجب على مراكز أبحاث الدفاع الوطني ومراكز الفكر معالجة الأولويات الرئيسية لتخطيط القوة على أساس وظيفي واقعي.

ويُفترض أن تتولى القوى العظمى في الحلف -مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة- زمام المبادرة لإظهار كيفية تنفيذ المفهوم الاستراتيجي لحلف الناتو، إذ يتعين على هذه القوى دراسة سبل التعاون من أجل توفير الردع النووي الموسع.

وأخيراً، ليس هناك شك في أن النتيجة النهائية للقتال الحالي بين روسيا وأوكرانيا ستلقي بظلالها على جهود تخطيط القوة لحلف الناتو على المدى الطويل، لذلك من المتوقع أن يحذر “المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف” من احتمالية مواجهة دول الحلف أزمات مع روسيا لفترة طويلة أشبه نسبياً بفترة الحرب الباردة، هذا بالإضافة إلى مواجهة الحلف لتحديات وتهديدات أخرى كالإرهاب أو الصعود الصيني. وبناءً على ما سبق، يكون التخطيط “الفعال” لقوات الناتو ضرورة حيوية.

المصدر:

Anthony Cordesman. The Need for a New NATO Force Planning Exercise. The Center for Strategic and International Studies (CSIS), 2022.

مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى