حول العالمميديا و أونلاين

في مواصفات رجالات الانتقال: السبسي تونس ببساطة كان رجل الثورة والدولة

ودّعت تونس قبل أيام الرئيس محمد الباجي قايد السبسي، الذي تولى السلطة في ظرف حرج، ورحل في ظرف أكثر تعقيداً، لم تكن حياة الرئيس التونسي الراحل سهلة أو هيّنة، رغم أنّه ولد في أسرة برجوازية قريبة من حكام تونس (البايات) قبل الاستقلال.

ولد محمد الباجي بن حسونة قايد السبسي، في 29 (نوفمبر) 1926، لوالد من الأعيان التونسيين؛ إذ كان يمتلك أرضاً زراعية كبيرة، وتعود أصوله إلى جدهم إسماعيل قايد السبسي المولد في سردينيا، والذي انتدب للعمل بالقصر في حكم حسين باي الثاني (والباي لقب حكام تونس من قبل الدولة العثمانية)، ثم رُفّع في عهد أحمد باي الأول (حَكَم بين عامي 1837 و1855،) ليصبح مسؤولاً عن تحضير “السبسي” أي الدخان؛ وهذا اللفظ مايزال يطلق على الدخان والسجائر في تونس وليبيا إلى الآن، ومن هنا جاء لقب (قايد السبسي) ثم عينه أحمد باي الأول، موظفاً سامياً بعد زواجه من الأميرة فاطمة، ابنة حسين باي الثاني، وأنجب منها سبعة أطفال أكبرهم محمد باي قايد السبسي.

في العام 1949 انتقل إلى باريس ليواصل الدراسات العليا في الحقوق

لم تكن حياته سهلة رغم أنه ولد في أسرة برجوازية قريبة من حكام تونس

حصل محمد الباجي قايد السبسي على رتبة أمير لواء، وبنى منزلاً بباب سويقة قرب باب الأقواس صار يعرف بدار قايد السبسي.
تزوج محمد الباجي قايد السبسي من محبوبة آغا وأنجب منها سبعة أطفال، أصغرهم اسمه حسونة، درس حسونة بالمدرسة الصادقية وتزوج من حبيبة بن جعفر، ومن المعلوم أنّ عائلة “بن جعفر” من أعيان تونس العاصمة، وانتقل حسونة وحبيبة للعيش في ماطر وكانا يملكان أراضي زراعية   في وادي مجردة.
ويتناقل التونسيون أنّ والدته عندما جاءها المخاض حملها أبوها إلى مقام سيدي بوسعيد الباجي، ونذر أن يسمي المولود “الباجي” إذا جاء ذكراً تيمناً بالشيخ.

عاش الباجي قايد السبسي طفولته في منطقة سيدي بوسعيد في تونس العاصمة، بعد وفاة والده وعمره عشرة أعوام، ودرس بمعهد الصادقية بتونس العاصمة، ثم أكمل الجزء الثاني من دراسته بمدينة ديجون الفرنسية عام 1948.

توطدت علاقته بالحبيب بورقيبة

اللقاء ببورقيبة

وفي العام 1949 انتقل إلى باريس ليواصل الدراسات العليا في الحقوق ، هناك التقى “بالحبيب بورقيبة الابن” وتوطدت بينهما علاقة سمحت له بالالتقاء بالحبيب بورقيبة الأب عام 1950، كان لهذا اللقاء أثره الكبير على حياة الباجي قايد السبسي؛ فقد أقنعه الحبيب بورقيبة بالنضال من أجل تونس والانضمام إلى الحزب الدستوري الجديد.

انتخب برلمانياً وعين وزيراً للدفاع الوطني العام 1969 ثم سفيراً لتونس بباريس

عاد السبسي إلى تونس يوم 15 (يوليوز) 1952 بعد إنهاء دراسته الجامعية ثم التحق بمكتب المحامي فتحي زهير، وتم تكليفه بالدفاع عن الوطنيين الذين مثلوا أمام المحكمة العسكرية، وقد صحبه في هذا الدفاع مجموعة من المحامين من الحزب منهم،  المحاميان توفيق بن براهم وعبد الرحمن عبد النبي، لكن قوات الاحتلال  الفرنسي تمكنت من نفي الأستاذ فتحي زهير في (مارس) 1954، فلم تهن عزيمة الباجي وواصل الدفاع عن المناضلين بمكتب المحاماة بمفرده.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، واصل الحبيب بورقيبة المفاوضات وطالب فرنسا بمراجعة الاتفاقيات في اتجاه الاستقلال التام، فأسفرت المفاوضات الجديدة عن بروتوكول الاستقلال في 20 (مارس) 1956.

في العام 1949 انتقل إلى باريس ليواصل الدراسات العليا في الحقوق

نضال ما بعد الاستقلال

كان نضال الباجي السبسي منذ شبابه ضمن الحزب الحر الدستوري الجديد دافعاً لأن يدعوه الوزير الأول وقتها “الحبيب بورقيبة” الذي كان يثق به كثيراً، إلى ديوانه للعمل كمستشار له، وتم تكليفه بمتابعة ملف الشؤون الاجتماعية، بتاريخ 28 (أبريل) 1956.
ثم التحق بديوان كاتب الدولة للداخلية الطيب المهيري في (يوليوز) 1956، وعُين مديراً للإدارة المحلية والبلدية، في غشت 1962 تم تكليفه من قبل الرئيس الحبيب بورقيبة بمهمة تتعلق بالتنظيم المستقبلي للسياحة والصناعات التقليدية فأصبح مديراً للسياحة.

في غشت 1969 تم تعيينه سفيراً بواشنطن، لكن بعد قبول أوراق اعتماده من قبل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، تم الاحتفاظ به في تونس ليترأس القائمة الانتخابية للحزب بدائرة تونس، فتم انتخابه نائباً بالبرلمان بتاريخ 2(نوفمبر) 1969، وتم تعيينه في الحكومة المكونة من قبل الباهي الأدغم بعد خمسة أيام من هذا التاريخ وزيراً للدفاع الوطني برتبة وزير دولة، وفى العام 1970 تم تعيينه سفيراً لتونس بباريس.

ناضل الباجي قايد السبسي منذ شبابه ضمن الحزب الحر الدستوري الجديد

الخلافات الحزبية والاستقالة

كان التكوين النفسي والاجتماعي والنضالي للباجي قائد السبسي  أثر على اختياراته السياسية، فكان واضحاً غير مهادن، يؤمن بالحريات، وبالديمقراطية، وبالتنوير، فبدأ يستشعر الخطر عندما لاحظ أن قيادات الحزب تتلكأ في إجراءات الإصلاح الاقتصادي والانفتاح الديمقراطي خياراً لها وعنواناً لسياسياتها، وأن هناك خيارات أخرى غير معلنة في أروقة الحزب، لذا قرر الاستقالة من منصبه كسفير وأوضح موقفه هذا في مقال نشره بصحيفة “لوموند” الفرنسية العام 1972، وما لبث أن انعقد مؤتمر الحزب من جديد بالمنستير في (أكتوبر) 1974 وقرر طرده، إثر موقفه هذا، مع قادة آخرين.

العودة إلى المحاماة ثم السياسة

عاد السبسي إلى تونس، واستأنف نشاطه بمكتب المحاماة وواصل نضاله بالكلمة المكتوبة ودفاعه عما يؤمن من أفكار مستنيرة وتنويرية عبر نشر مقالات بصحيفتي “الرأي” و”الديمقراطية” بصورة منتظمة، تعبر عن رؤيته للديمقراطية والحرية، ولم يكتف بهذا بل انضم العام 1978 إلى حركة الديمقراطيين الاشتراكيين  الليبرالية  المعارضة التي شكلها منشقون عن الحزب الحاكم.
قام الرئيس الحبيب بورقيبة بدعوة الحزب للمؤتمر فى (سبتمبر) 1979؛ أي بعد سبعة أعوام من استقالة السبسي من عمله وخمسة أعوام من إقالته من الحزب، ليدفع الحزب للتراجع عن قرار فصل الباجي ورفاقه بعدما استشعر الخطر من تجمع القياديين السابقين في كيان سياسي معارض.

فى 2 (ديسمبر) 1980 وافق السبسي على الانضمام إلى حكومة محمد مزالي بعد أن قطع  بورقيبة وعداً يقضي بتحقيق الانفتاح الديمقراطي والتعددية، وعندما أصبح وزيراً للخارجية التونسية، أدار ملفات صعبة، ولعب دوراً مهماً في قرار إدانة مجلس الأمن للغارة الجوية الإسرائيلية على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، ثم عين سفيراً لدى جمهورية ألمانيا الفيدرالية فى (نوفمبر) 1986 وبقي في هذا المنصب حتى أواخر العام 1987.

غلاف كتاب “الباجي قايد السبسي والمشي بين الألغام” لمنذر بالضيافي

الخلاف مع زين العابدين 

قام الوزير الأول زين العابدين بن علي بالانقلاب على بورقيبة في السابع من (نوفمبر) العام 1987، فقدم السبسي استقالته كسفير وعاد إلى تونس، لكن بن علي كان يدرك قيمة الباجي ووزنه السياسي، فعينه عضواً بالمجلس الدستوري مع حسيب بن عمار ورشيد إدريس وعياض بن عاشور وغيرهم.

لعب دوراً مهماً ومؤثراً في حماية تجربة الانتقال الديمقراطي بعد الثورة عندما تمسّك بخيار التوافق

أعيد انتخاب السبسي نائباً بالبرلمان، فعين فى فترة أولى رئيساً للجنة السياسية والشؤون الخارجية، ثم في (سبتمبر) 1990 رئيساً لمجلس النواب حتى (أكتوبر) 1991، وحسب ما كتب منذر بالضيافي في كتابه (الباجي قايد السبسي والمشي بين الألغام)، “وصلت الخلافات بين السبسي وزين العابدين الى أقصى درجة حتى أنّ “السبسي لم يعد يكن لزين العابدين أي تقدير بل ازدراء وكرهاً”.
أدت الخلافات مع زين العابدين إلى انسحاب السبسي من الحياة  السياسية ، والعودة للعمل بالمحاماة المجردة، وذلك لمدة عشرين عاماً، وفي هذه الفترة كتب كتابه عن الحبيب بورقيبة.
رجل الثورة
عندما قامت ثورة 14 (يناير) 2011 التي أطاحت ببن علي، آمن بها الباجي واعتبرها ثورة شعبية أصيلة، فلم يجد الثوار أفضل منه ليتولى منصب الوزير الأول في (فبراير) 2011، وكما يقول منذر بالضيافي في كتابه: “شاءت الأقدار أن يعود بقوة للحياة السياسية، ليحتل كما كان زمن بورقيبة موقع الصدارة، لكن هذه المرة، في دور جديد مختلف عن السابق، ليتولى حماية “الثورة” و”الدولة” معاً، عندما قبل منصب الوزير الأول، في أول حكومة بعد هروب بن علي”، كما لعب دوراً مهماً ومؤثراً في حماية تجربة الانتقال الديمقراطي، عندما تمسك الباجي بخيار “التوافق” لإدارة وضع انتقالي صعب وغير مستقر.

وفي (يونيو) 2012 أعلن عن تأسيس حركة نداء تونس التي حصلت على 86 مقعداً في الانتخابات التشريعية التي جرت في 26 (أكتوبر) 2014، ثم فاز في الانتخابات الرئاسية فى 23 (نوفمبر) 2014، ليصبح الرئيس الرابع للجمهورية التونسية

فاز في الانتخابات الرئاسية في 23 نوفمبر 2014

عاد الباجي قائد السبسي حاكماً قوياً، لكن وسط تحديات عديدة ومركبة، أهمها تقدمه في السن، فضلاً عن تحركه في مناخ غير مستقر وطنياً وإقليمياً، خاض معارك تنويرية، هاجمه الاسلامويون، لكنه كان السياسي المحنك، الذي تمكن من إدارة دفة سفينة الدولة بنجاح، فجنّبها الصدام مع المتطرفين، وفي نفس الوقت أفسد عليهم خطط الوصول للحكم، كل هذا دون خسائر كبيرة.
تعرض الرئيس الباجي قايد السبسي لأزمة صحية حادة في حزيران (يونيو) 2019 وعلى إثرها دخل المستشفى العسكري بالعاصمة التونسية.
وفي يوم 25 (يوليوز) 2019 أعلنت الرئاسة التونسية وفاة رئيسها السبسي، لتنتهي حياة سياسي تونسي  بارز قاد تونس في أصعب فتراتها، وسار بها عبر حقول ألغام السياسة، وتركها في لحظة حرجة، لكن دون أن يسمح للفوضى أن تتسلل؛ لأنه كان يؤمن أنّ الوطن لا يرتبط بشخصه أو شخص غيره.

المصدر: حفريات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى