رأي/ كرونيك

المقاطعة: إلى أين نسير؟

جلس المسير مع أربعة من المتدخلين وراء طاولة عريضة و أمامهم قوارير من المياه “المعدنية” منزوعة العلامة التجارية، تعبيرا عن رفض المنظمين لإشهار الشركة الموزعة. لكن لون سدادة القارورة الحجري والقارورات التي وزعت على الحاضرين, تحيل إلى شركة جديدة في السوق استغلت حملة المقاطعة وتمكنت من اجتياح السوق المغربية. أسفل الطاولة علقت لافتة كتب عليها ندوة حول: “المقاطعة الاقتصادية” من تنظيم شبيبات اليسار الديمقراطي بأكادير يوم 22 يوليوز 2018. الحضور قليل جدا، داخل حجرة دراسية بإحدى مؤسسات التعليم العالي بالمدينة.
لم تنطلق الندوة، كالعادة، في وقتها المحدد. وزعت أربع مداخلات، ثلاثة منها لمناضلين ينتمون للتمثيلية الحزبية لشبيبات اليسار الديمقراطي، أما الرابعة فكانت لأستاذ السيسيولوجيا بجامعة ابن زهر بأكادير. حاول جل المتدخلين، خاصة المتحزبين، الإشادة بالمقاطعة وعمت مداخلاتهم حماسة منقطعة النظير، شبيهة بتشجيع جمهور كروي.
تطرق كل متدخل، بدون مكبر صوت، الى أفكار راجت كثيرا وواكبت حملة المقاطعة في مواقع التواصل الاجتماعي منذ انطلاقها. أفكار عامة لا تختلف عن مثيلاتها من تعليقات عامة الناس. جلسنا لأكثر من ساعتين، تصوير فيديوهات مباشرة على الهواتف النقالة وأخذ الصور من كل جنبات القاعة.
انتهت المداخلات الأربعة، بعد طول انتظار، حاولت تجميع أفكاري المشتتة، بعد تركيز كبير، لصياغة تدخلي والمساهمة في النقاش الدائر حول المقاطعة. راودتني أفكار منذ بداية حملة المقاطعة، أنتظر ندوة أو مناسبة للنقاش لطرح ما يدور في عقلي من ملاحظات.
تجند المسير كعادته، ووزع التدخلات على الحاضرين، واشترط منذ البداية فتح لائحة واحدة ضمت 11 فردا و حدد زمن كل تدخل في دقيقتين، استغربت كثيرا، و لم أشاء أن أعترض على ذلك. بدأت تدخلي بشكري المنظمين والمسير وبعد جهد جهيد لتنظيم أفكاري في وقت وجيز طرق المسير الطاولة وطلب مني التوقف، أحسست أني ظلمت و أخرست، ما أصعب أن يوقفك احد دون إتمام فكرتك، لم يتابع ما أقول و تركيزه منكب على ساعته.
بعد هذا الاطناب في وصف مجريات الندوة، سأحاول ألا أطيل على القارئ بالملاحظات التي كنت أسعى لإيصالها لشبيبات اليسار الديمقراطي و كل من تهمه حملة المقاطعة. أولا: لم يناقش المتدخلون إطلاق حملة المقاطعة، من هم و لماذا نجحوا؟
الداعون للمقاطعة:
أطلقت حملة المقاطعة بمواقع التواصل الاجتماعي، قبل ثلاثة أشهر، الدور التي كانت الأحزاب والنقابات والجمعيات وباقي الإطارات المنظمة تضطلع به في السنوات السابقة، كانت تلك الوسائط الاجتماعية تلعب دورا مهما في التعبئة لكل أشكال الاحتجاج والرفض، تحمل هموم فئات واسعة من ضحايا السياسات الاجتماعية والاقتصادية. تتوصل عبر هياكلها التنظيمية وبشكل يومي لمعاناتها، تعقد جموعات عامة ولقاءات دورية وعبر صحافتها. تصاغ مطالبها وتناقش مقترحاتها، دينامية كبيرة وتواصل واسع وثقة متبادلة، أفراد متطوعون يحملون هموم المتضررين بكل جدية، يوصلون الرسالة حسب تصوراتهم الفكرية والأيديولوجية، يختلفون سياسيا، كل يحاول إبراز ذاته السياسية والدفاع على مشروعه. تطورت الأمور وتعقدت آليات التواصل، لم يعد المواطن يحتاج الى من يوصل معاناته الى الذين يحددون السياسة الاقتصادية والاجتماعية وحتى الأمنية، شريط بسيط أو صورة على شبكات التواصل الاجتماعي تجعل أبسط إدارة تتدخل لردع المخالفين، عشرات الحالات من الانفلات الأمني تدخلت فيها السلطة.
عرفت أوربا ظهور حركات سياسية، “بوديموس” نموذجا، استغلت كثيرا التغيير الجدري الذي عرفته آليات التواصل الاجتماعي، ووظفتها بكل مهنية، و استفادت من الجو الديمقراطي ببلدانها و حققت مكاسب سياسية و انتخابية. حاولت حركة كفاية بمصر سد الفراغ الحزبي والسياسي بالبلد وخلق نموذج جديد من الوسائط الاجتماعية أكثر عصرنة وإدماجا لفئات واسعة من المهتمين، لكن ظروف القمع عجلت بوأد التجربة.
يعاني اليسار المغربي اليوم من ضعف فهم أهمية إعادة بناء الوسائط الاجتماعية، والقطع مع الأساليب القديمة المهترئة في التنظيم والهيكلة، تنظيمات عاجزة عن استغلال فرص التطور التكنولوجي. حاولت فيدرالية اليسار الدفع بعجلة تحديث آليات اشتغالها، لكن تعرقلها مشاكل مرتبطة بالإرث التنظيمي القديم. بقي في الساحة، الآن، جماعة العدل والاحسان كأكبر مستقطب للكفآت التقنية والمستغلة لأي ظرف سياسي لصالحها، وتعليق نبيل منيب على مسيرة 15 يوليوز 2018 يحمل بعض الدلالة حول ذلك.
كلما تعمقت أزمة الأحزاب السياسية المغربية، زادت بعض الخطوات الهدامة في تأزيم الوضعية و دعوة حزب النهج الديمقراطي لمقاطعة الانتخابات و غيره، نموذج لمثل تلك الخطوات غير المحسوبة العواقب. إذن فقد سبق للجماهير أن قاطعت الأحزاب بكل تلاوينها الراديكالية والإصلاحية على حد سوى، ونجحت في ذلك، قبل الدعوة الى مقاطعة المنتجات الاستهلاكية.
المستفيد من حملة المقاطعة:
لقد مست حملة المقاطعة غير المتوقفة جانبين اثنين من القضايا المحورية فيها: الاقتصادي و الاجتماعي، بخصوص الأول سبق أن تطرقت أحد خطابات الملك الى قضية التوزيع العادل للثروة و بعده تبنته بعض الاحزاب السياسية و أصبح الجميع يدعو الى ذلك. إن التوزيع العادل للثروة يقابله الاحتكار الاقتصادي لمنتوج أو عدة منتجات لشركات عملاقة و هذا ما يحول دون توسيع رقعة الطبقات المتوسطة في عملية الإنتاج و التوزيع و بالتالي تضرر قسم واسع منها بفعل قدرة الإمكانات التكنولوجية و المالية، التي يملكها المحتكرون، للسيطرة على السوق، و بذلك تنتفي شروط المنافسة و يحدد ثمن البيع بناء على الشروط التي يخلقها المحتكرون، و دعوة بعض الأطراف في تفعيل مجلس المنافسة نتيجة لذلك الوضع، و لم يكن اختيار الشركات الثلاث لمقاطعتها اعتباطيا.
تعتبر الطبقة المتوسطة القاعدة الاجتماعية لأي نظام سياسي في الدول الرأسمالية، كلما توسعت الطبقة المتوسطة أصبح الاستقرار السياسي أكبر ويرتفع منسوب مشروعية النظام و مصداقيته و تجربة احتجاجات الأرجنتين سنة 2002 و دور تلك الطبقة خير دليل على ذلك و تركيا نموذج آخر لبسط الهيمنة السياسية لأردوغان، بفعل الطفرة الاقتصادية التي عرفها البلد في ظل حكمه.
إن حملة مقاطعة اٌقطاب الاحتكار الثلاث لها وقع كبير على مستقبلها الاقتصادي، و الفاعل الاقتصادي الفرنسي بالمغرب يعي خطورة الوضع، و خرجاته المتتالية دليل على فهم الرسالة، لن يكون الجانب الاقتصادي و المالي لتلك الشركات أفضل حالا حتى و ان توقفت المقاطعة. ستتراجع مبيعاتها ويتقلص نفوذها الاقتصادي في السوق المغربية و بالتالي سيسمح الوضع الجديد من ظهور شركات جديدة في السوق و قارورات الماء “المعدني” التي وزعت بالقاعة نموذج لفاعلين اقتصاديين اقتحموا السوق المغربية كموزعين لمنتوج اسباني.
الجانب الاجتماعي من حملة المقاطعة له ارتباط بغلاء الأسعار وهذا ما يهم فئة عريضة من الشعب المغربي. لقد سبق حملة المقاطعة منذ ازيد من عشر سنوات تأسيس تنسيقيات مناهضة غلاء الأسعار، أزيد من ستين مدينة تأسست بها التنسيقية، ونظمت اللقاء الوطني الأول بمقر الاتحاد المغربي للشغل بالرباط، وهيمنت قضية التوافقات السياسية بين ممثلي التنسيقيات الحاضرة بكثافة خلال اللقاء الأول. عرف اللقاء تجاذبات سياسية عبر العشرات من التدخلات، كل طرف يسعى للهيمنة. كنت حاضرا حينها انظر و اتأمل الوضع، اهتممت كثيرا بتجربة مدينة بوعرفة، رفض سكان المدينة تسديد فواتير الماء و الكهرباء لأكثر من سنتين، شهدت مختلف المدن وقفات احتجاجية و مسيرة وطنية ضخمة بمدينة الرباط. نظم اللقاء الوطني الثاني و كان أقل حضورا و طغت التوافقات السياسية على التجربة الفتية وعوض تطويرها تم الاجهاز عليها. هنا يبقى السؤال المشروع يطرح نفسه لماذا تتباهون بالمقاطعة؟ رغم أنكم من أجهض تجربة التنسيقيات المناهضة لغلاء الأسعار. إن للمقاطعة تأثير يخدم مختلف الطبقات الاجتماعية، ليس فقط الفقراء، ضحايا احتكار كبرى الشركات وبالتالي قضية التوزيع العادل للثروة في جانبها الاقتصادي، و ضحايا غلاء الأسعار في جانبه الاجتماعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى