رأي/ كرونيك

مدنية التعليم.. أول الطريق لمحاربة الإرهاب

كاتب وأكاديمي مصري

في ظل تداعي العنف  الحالي في العالمين؛ العربي والإسلامي، وانتشاره في العالم باسم الإسلام ، كان من الضروري أن نتساءل: ما السبيل إلى الخروج من هذه الأزمة الطاحنة التي يتم التصارع فيها باسم الإسلام؟ هل الملاحقات الأمنية كافية لمواجهة هذا العنف؟ في ظل هذه الأجواء الملتهبة كان من الضروري ترشيد حضور الدين في المجال العام الاجتماعي والسياسي، وألا يظل للفكر الديني حضوره الطاغي على هذه المجالات العامة، ولكن كيف يتأتى لنا ذلك؟ إنّ هذا لا يمكن أن يتحقق بدون أن تسود الروح المدنية فى التعليم، وأن يتم ترشيد سيطرة التعليم الديني على العقول؛ لأنّ أول طريق لمحاربة التطرف باسم الدين هو أن تسود الثقافة المدنية كثقافة شعب، وأن يسود نظام التعليم المدني فى حياتنا، فهذا التعليم يسعى لإعمار الحياة وتقديس العقل وإنارة العمران، والبحث عن رفاهية البشر وراحتهم، إنّ العلوم المدنية هي علوم دنيوية بإمتياز، ولذلك فإنّها أساسية لأي شعوب تسعى إلى النهضة والتقدم .

فمع مطلع القرن التاسع عشر كان التعليم الديني هو السائد في مصر ، وفي معظم أرجاء العالم الإسلامي إلى أن جاء محمد علي وأراد أن يؤسس لنهضة مدنية حديثة، ولم يكن التعليم الديني ليسعفه فاتّجه إلى تأسيس التعليم المدني، ولم يعوّل على ما هو سائد في الأزهر، ولم يمسسه بأي إصلاح، ومنذ ذلك الحين ومصر تعيش في ظل ازدواجية التعليم ،ما بين التعليم المدني العلمي، وبين التعليم الديني،  وقد استطاعت مصر أنْ تحقّق تقدّماً في كافة المجالات الدنيوية بسبب جودة التعليم المدني في المدارس والجامعات بالدولة المصرية في تلك الفترة التاريخية، وبالمقابل كانت هناك محاولات مستمرة لإصلاح الأزهر من الشيخ محمد عبده، والشيخ الأحمد الظواهري، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ عبد المتعال الصعيدي، وغيرهم كُثر من أصحاب العمائم المستنيرة، محاولين أن يكون التعليم الديني مواكباً للتعليم المدني في كافة المجالات، وبالفعل كان تقدم التعليم المدني مهمازاً محركاً لتطوير التعليم الديني  ومحاولة جعله مواكباً لمتطلبات العصر، وما تطرحه المستجدات الحضارية.

وحين صدر قرار جمال عبد الناصر بتطوير الأزهر فى الستينيات من القرن المنصرم، اتّسع دور الأزهر الديني، وذلك بتأسيس كلّيات علمية ومدنية كي تزيد من الوجه المدني للأزهر، ولكن الذي حدث هو تمييع رسالة الأزهر الحقيقية – وهي الرسالة الدينية – فلا الأزهر طوّر رسالته الدينية تطويراً حقيقياً، ولا هو قام برسالته الأخرى في التعليم المدني، وقد اتّسعت معه رقعة التعليم الديني في المعاهد الأزهرية، ليصاب جسد الأزهر في مدارسه وجامعاته بالترهل الشديد والعشوائية الكبيرة، ويتردّى مستوى التعليم فيه من البداية إلى النهاية، وفقدت جامعة الأزهر خصوصيتها الشديدة في كونها منارة للعلم الديني في العالم الإسلامي.
وبالموازاة كان هناك انهيار في حالة التعليم المدني بمصر في ظل إزدياد الكثافة السكانية، وعجز الدولة عن الارتقاء بالتعليم المدني ، وأصبحت الدروس الخصوصية بديلاً عن المدارس الرسمية، فسادت حالة من الانهيار الكامل في التعليم على كافة المستويات، وصار ملحاً وضرورياً إرساء فكر جديد للتعليم يراعي ترسيخ التعليم المدني الجاد في مصر، وذلك في إطار فلسفة تسعى إلى توحيد التعليم في مصر كله، وتحويله إلى تعليم مدني منذ مرحلة الروضة وحتى التعليم الثانوي، وأن تتحول المداس الأزهرية إلى مدارس مدنية لها نفس المقررات التي تدرس في المدارس الحكومية، مع ضرورة القضاء على التمييز بين ماهو ديني وما هو مدني في التعليم الأولى وحتى الثانوية العامة، ومن الضرورة على الدولة المصرية أن تستقي نماذج من أنظمة التعليم في الدول المتقدمة كي تحاكيها، وأن تستوعب من تلك الأنظمة التعليمية ما يوافق ظروف الدولة المصرية، وما يمكن أن يرتقي بالتعليم فيها .

وعلى جانب آخر من الضروري فصل الكليات العلمية في الأزهر إلى كليات مدنية في جامعة مدنية  بشكل صريح – كبقية الجامعات- جامعة يكون دينها العلم، والبحث العلمي، وأن تكون جامعة الأزهر قاصرة على كونها  جامعة دينية  لاهوتية تختص بعلوم الدين واللغة العربية، وأن تكون قاصرة على كليات اللغة العربية، وأصول الدين، والشريعة والقانون، وعلوم القرآن، والدراسات الإسلامية، وأنْ يكون اختصاص هذه الكليات هي تخريج رجال دين حقيقيين يعنون بالدعوة والعلوم الإسلامية، ويكون منهم وعاظ، ومعلمى الدين، والمبشرين الذين يعرفون بالإسلام الصحيح وبنهجه المعتدل للعالم، ويقع على عاتق هذه الكليات من خلال علمائها  تطوير الخطاب الديني وفقاً لفقه الأولويات، وتطور واقع الشعوب المسلمة، على أن تكون جامعة الأزهر مطالبة بتطوير أنظمتها التعليمية بما يجعل الفكر الديني الصادر عنها موافقاً وملاحقاً لمتطلبات العصر .

أما كيف يتم الدخول إلى جامعة الأزهر، فإنّ ذلك يكون من خلال شعبة الأدبي من الثانوية العامة؛ حيث تكون هناك مواد مؤهلة لمن يريد أن يتجه إلى دراسة علوم الدين، تتعلق بدراسة علوم دينية، وحفظ القرآن للتأهيل لدخول جامعة الأزهر كجامعة دينية .
ومن ثم فإنّ السبيل الحقيقي لمواجهة العنف والإرهاب السائد في حياتنا باسم الإسلام هو التغيير الحقيقي في أنظمة التعليم السائدة في مصر والأوطان العربية، ليسود تعليم مدنى، يرتقي بالممارسة العقلية النقدية، يقدس الإنسان وحياته، ويسعى إلى الارتقاء بوجوده في كافة الميادين، ويستند هذا التعليم إلى مغامرة العقل في الكشف عن مكنونات الإنسان والطبيعة، ويرسخ لنسبية المعرفة الإنسانية حتى في إدراك حقائق الدين، وذلك كي يسود التسامح وحق الاختلاف بين البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وأنْ نبحث عن أصول المشترك الإنساني العام بين البشر، ومن ثم فإنّ أول سبيل إلى مواجهة العنف هو مدنية التعليم وأنظمته كي يتم ترشيد حضور الدين في المجال العام الاجتماعي.

المقال منشور في حفريات

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى