فكر .. تنوير

في ذكرى وفاته 2 من أكتوبر: قالها سلامة كيلة ورحل.. المثقف هو الذي يدافع عن الناس

 

عاصف الخالدي: كاتب أردني

منذ رحيله، يوم الثاني من شهر (أكتوبر) الماضي، لم تتوقف تجربة المفكر العربي الفلسطيني، سلامة كيلة، عن التفاعل، وهو الذي عاش أكثر من مدينة، وأكثر من هزيمة، وأكثر من محاولة فكرية، للبحث عن سبيل إلى النهوض من سلسلة الأزمات العربية الراهنة حتى اليوم.
كيلة؛ الذي رهن حياته من أجل الحريات، وتجرّع مرارة السجون في سوريا، عاش جريئاً في نقد أيديولوجيته الماركسية قبل كلّ شيء، وواجه اليسار العالمي والعربي بجرأة، داعياً إياه إلى النظر في المرآة وإعلان إفلاسه من أجل محاولة نهوض جديدة، حتى هزمه المرض في لحظةٍ أنهت حياته العملية؛ حيث حمل مشروعاً طويلاً ومتنوعاً، يبقيه قابلاً للاستمرار، مما يعني ضرورةَ إلقاء الضوء مرةً أخرى على تجربة كيلة الفكرية، بعد رحيله بعام.

الحالمُ المُطارد

يقول سلامة كيلة، المولود في بير زيت الفلسطينية، عام 1955، في مقابلةٍ مع “بي بي سي”، عام 2016: “كان وعيي خلال حياتي في بلدتي بسيطاً، إلى أن حضر الاحتلال، وجعلني واعياً بمعنى الظلم والقمع…، ولاحقاً المقاومة، وكانت تلك اللحظة هي التي أدخلتني في السياسة”.

شعبان: سلامة كيلة مفكر إنساني بامتياز انتمى للشعوب وكرّس أفكاره للانتصار لها وتفاعل مع اليسار العربي والعالمي

وبدخوله من باب السياسة من أجل الحرية والحقّ، طورد كيلة من الاحتلال فيما بعد، واضطر للخروج من فلسطين؛ فتعدّدت محطّاته بعد ذلك، ليدرس في بغداد ويحصل على شهادةٍ في العلوم السياسية من جامعتها، عام 1979، وليمرّ بعد ذلك في عمّان وباريس ولبنان، حتى يستقر به المقام في دمشق، عام 1981.

بعد ذلك، بدأ كيلة ببناء نموذجه الثقافي المميز، وشخصيته الفكرية الخاصة، فعدا عن كونه يسارياً وماركسياً، فقد نظر بعين النسر إلى واقع القوى والأحزاب اليسارية والشيوعية العربية، وعدّه كثيرون شخصاً مجدداً، وصل به الأمر إلى محاولات تجديد فكر ماركس نفسه، من أجل تطوير (استعمال) الفكر الماركسي واليساري في القرن الواحد والعشرين؛ بسبب ما كان كيلة يعدّه “سلسلةً من الهزائم مرّت بها الشعوب العربية والعالمية اقتصادياً ووطنياً على مرور عقود”، وفق رأيه في مدوّنته الخاصة “سلامة كيلة برس”.

ولفهمٍ أعمق عن شخصيةِ كيلة الفكرية والعملية التي اشتبكت مع الواقع، يقول الكاتب والباحث المصري، وأحد أصدقاء كيلة المقربين، طوال إقامته في القاهرة، عصام شعبان: “يمكن عدّ سلامة كيلة مفكراً إنسانياً بامتياز؛ لأنّه انتمى دوماً للشعوب، وكرّس أفكاره للانتصار لها، كما أنّه تفاعل مع اليسار العربي والعالمي، وشارك في أنشطته، وكان واضحاً في اصطفافه إلى ثورات الشعوب كما في مصر وسوريا، أما فكره، فقد تركز منذ الثمانينيات على بعثِ قوى اليسار العربي من جديد”.

أفكار كيلة بقيت منحازة لأمل التغيير والتقدم وحقوق الشعوب

ويوضح شعبان في تصريحه لـ “حفريات”: “إنّه الماركسي الأكثر عمقاً؛ لأنّه بسيط، فقد اكتسب بلاغة أفكاره؛ لأنّه اشتبك بوضوحٍ مع هموم الشعوب والطبقات، وآمن رغم تراجع العديد من المشاريع الفكرية والوطنية بأنّ العالم العربي مؤهلٌ دوماً للتقدم والتغيير، كما طالب خلال الألفية الجديدة أحزاب اليسار بأن تعترف بموتها، وتدفن جثة تجربتها الماضية، لتنهض لاحقاً من جديد”.
وكان كيلة قد عانى في الواقع كذلك، ولم يسكن برجاً عاجياً، مثل المفكرين، بقدر ما سكن أسيراً خلف السجون، حين اعتقله نظام حافظ الأسد، عام 1992، وزجّ به في السجن مدة ثمانية أعوام بتهمة “مناهضة أهداف الثورة”، وهو الثوري الذي لا يستكين؛ بل سجن بسبب انتمائه لحزب العمل السوري المعارض، وهو حزبٌ شيوعي، لكنّ كيلة آثر البقاء في سوريا والاستمرار في عمله الفكري، إلى أن اعتقل بعد اندلاع الثورة السورية مباشرة، بتهمة التحريض على إسقاط النظام، ليتعرض للسجن والتعذيب من جديد، حتى أطلق سراحه، وأُبعد إلى الأردن، الذي ضمّه دون أيّ قمع، ليتفرّغ لعمله المعرفي هناك.
بقي كيلة مصرّاً على راهنية النظرية الفكرية الماركسية، وقوة أدواتها التحليلية على إعادة إنتاج حلولٍ بديلة للرأسمالية وتوحشها؛ لذا أعاد إحياء معظم الكتب النظرية حول الماركسية مما طرح في عقودٍ سابقة من أجل نقدها، فما هي أبرز معالم النقد والإحياء التي تصدّى لها كيلة؟.

الخروج إلى النور

في كتابه “الاشتراكية والثورة في العصر الإمبريالي”؛ يرى كيلة أنّ الرأسمالية أدخلت الشعوب في نفق أزمةٍ لا تنتهي مما “جعل الصراع الطبقي يتصاعد، ويتجلى في حلقة هامشية ومهمشة، هي دول الربيع العربي”؛ التي تكشف، برأي كيلة، كيف يعاد إنتاج الهيمنة من خلال دولٍ رأسمالية قوية، وأخرى بسيطة، وأخرى مهمّشة، كما في العالم العربي؛ إذ لا يمكن التغلب على هذه المشكلة دون تطوير “مصالح العمال والمزارعين والفقراء، فهي وحدها من تقود إلى التطور المجتمعي”، وإلا فإنّ الرأسمالية سوف تستمر فقط من خلال إعادة إنتاج الإفقار والأزمات.

كيلة: الرأسمالية أدخلت الشعوب في نفق أزمةٍ لا تنتهي إلا بالتطوّر المجتمعي ودعم حقوق الفقراء والفلاحين والعمال فقط

 

أما عن إفلاس اليسار؛ فيتحدّث في كتابه “إفلاس اليسار العالمي” عن التناقض الخطير الذي وصل إليه اليسار العربي “الذي أيّد ثورة تونس ومصر، ووقف ضدّ ثورة ليبيا وسوريا مثلاً، لاعتقاده أنّ الإمبريالية تتمثل في اعتمادٍ على دولٍ معينة فقط، مثل أمريكا، لكن اليسار العربي لا يريد الانتباه إلى اشتراك روسيا مثلاً في الإمبريالية العالمية الجديدة”؛ لذا فإنّه يدعم ثوراتٍ على حساب أخرى، وبرأيه؛ يحتاج اليسار إلى الخروج من قوقعته الأيديولوجية، وحتى من جذورها التاريخية والجغرافية، التي تشكّلت خلال الحرب الباردة، ليصنع أدواته النقدية والفكرية والعملية من خلال لحظته الزمنية والواقعية الراهنة.
وفي مقالٍ نشره موقع “حبر”، عام 2018، تتم الإشارة إلى إنتاج كيلة الغزير، الذي بلغ 39 كتاباً؛ إذ تتجلى تجربته الأكبر أيضاً “بمراجعته للأدبيات التي أسهمت في نشر الفكر اليساري عربياً خلال القرن الماضي، من أجل العثور على أدواتٍ جديدة لإعادة استعمال هذا الفكر بصورةٍ مفيدة، ضمن واقع المجتمعات العربيةِ اليوم”.

حقوق الطبقات المهمَّشة هي مفتاح مشروع كيلة في مواجهة الإمبريالية الاقتصادية

ويشرح عصام شعبان تجربة كيلة لتحديث اليسار: “ركّز كيلة على مسائل التنظيم الحزبي وتجارب اليسار العربي وإمكانات تطورها في الوقت الراهن، كما اهتم بتحليل مضمون الحركات الاحتجاجية للشباب في مواجهة أزمة الرأسمالية، وكان واضحاً وعميقاً في نقد النخب وطرق التفكير الشكلي السائدة، وباختصار؛ ركّز كيلة على مواجهةٍ معقدة محلية وخارجية، من أجل حقوق الشعوب والطبقات ضدّ الإمبريالية الاقتصادية”.

وأشار شعبان كذلك إلى أنّ كيلة “انتقد بموضوعيةٍ ظاهرة الإسلام السياسي ودورها في إجهاض الثورات، خصوصاً في سوريا؛ حيث استخدمت إلى جانب الجماعات الإرهابية في أوقات عديدة”.

وبصورةٍ عامة، وكما قال سلامة كيلة ذات مرّة، معبراً عن كونه صاحب عقلٍ نقديّ مشتبك مع الواقع والضرورة والحرية: “المثقف هو الذي يدافع عن الناس، ويطرح أسئلة الواقع لا أسئلة الكتب”، وربما تخلّى كيلة لأجل هذا كلّه عن كونه بدأ حياته الثقافية شاعراً، ليجرب، مثل أيّ مفكرٍ حالم على طريق الحرية، أن يضيف إشارةً جديدة من أجل عبور الأجيال في هذا العالم، إلى المستقبل.

ويذكر أنّ لكيلة كتباً عديدة، منها: “نقد الحزب”، و”العرب ومسألة الأمة”، و”الإمبريالية ونهب العالم”، وغيرها كثير، وكان الراحل قد عانى من مرض السرطان لأعوام؛ حيث قاومه إلى أن هزمه الموت أخيراً، وهو في الثالثة والستين من عمره، بعد مسيرةٍ إنسانيةٍ جديرةٍ بالخروج إلى النور في كلّ مرةٍ يخيم فيها الظلام على العالم.

المصدر: حفريات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى