رأي/ كرونيك

”التقدم والاشتراكية” والقصر.. أصل المشكل

أدان الملك محمد الخامس في أحد خطبه نهاية الخمسينيات ما سماه الإيديولوجيات المادية المنافية للإسلام. فما كان من الحكومة والقضاء المغربيين إلا أن حولا التصريح الملكي إلى فعل مادي سياسي وذلك بحل الحزب الشيوعي المغربي. حدث ذلك سنة 1959 وأصبح سابقة خطيرة على المستويين القضائي والسياسي حيث فهمت جميع الأحزاب أن مصيرها بل ووجودها على وجه الساحة السياسية مرتبط ارتباطا وثيقا بإرادة القصر لاغير.

ولنذكر هنا أن الملك محمد الخامس كان قد استقبل بعد عودته من المنفى سنة 1955 زعماء الحزب الشيوعي المغربي كباقي قياديي الهيئات الوطنية التي ناهضت الاستعمار وناضلت من أجل عودته إلى عرشه بعد أن اعتدى عليه الفرنسيون ونفوه إلى جزيرة كورسيكا ثم مدغشقر خلال سنوات 1953 ـ 1955 والغريب في الأمر أن المهدي بنبركة وكان أصدقاؤه آنذاك بالحكومة وهو وطني يساري يتعاطف مع الخط الإيديولوجي لشيوعيي المغرب وإن لم يوافقهم في كل شيء ـ قد تكلف بمحاولة إقناع قادة الحزب بقبول الأمر الواقع.

وقد حكى السيد عبد الله العياشي وهو أحد أبرز أعضاء الثلاثية القيادية للشيوعي آنذاك، أنه بعد انتهاء الاجتماع مع بنبركة ولما كان هذا الأخير يهم بمغادرة القاعة، قال له العياشي: «اليوم دورنا…وسيأتي عليكم الدور في المستقبل القريب». فنظر إليه بنبركة بنظرة حادة دون ان ينبس بكلمة. على كل، ظهر أن القائد الشيوعي كان على حق. فقد اضطر مؤسس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لمغادرة المغرب حوالي سنة بعد ذلك ليُحكم عليه بالإعدام سنة 1963 ولينفذ فيه سنتين بعد ذلك.

مناسبة هذا الكلام هو القرار القاسي والمهين الذي استهدف مرة أخرى نفس الحزب الأيام الأخيرة. فبدون أن يُخبر الحزب الذي يسمى الآن التقدم والاشتراكية ولا مسؤولته القيادية شرفات أفيلال كاتبة الدولة المكلفة بالماء، أعلن بلاغ مفاجئ للديوان الملكي عن حذف كتابة الدولة المعنية وضم مهامها وإداراتها إلى وزارة التجهيز والنقل. هكذا بقيت الوزيرة المسكينة لمدة تسعة أيام كاملة لا تعرف هل هي كاتبة دولة دون حقيبة أم أنها ستُكلف بقطاع آخر أم أنها ستقال أم أم…
لم يصدر قرار إعفائها إلا أول أمس وبعد أن هدد حزبها ضمنيا أنها قد تستقيل. ليس هناك أي سبب تقني وجيه للتعامل مع السيدة ومع حزبها بهاته الطريقة. يبدو أن السبب سياسي محض وهو استماتة الحزب في التحالف، الذي يسميه استراتيجيا، مع حزب العدالة والتنمية.

وفعلا فإن الحليف الوحيد لهذا الأخير داخل الأغلبية الحكومية هو حزب نبيل بنعبدالله، فالأحزاب الأخرى دخلت الحكومة بعد «البلوكاج» الشهير في جبة عزيز أخنوش وهي تأتمر بأوامره وأوامر من يقف وراءه.

إن حزب التقدم والاشتراكية (وهو كما قلنا الحزب الشيوعي سابقا) يتلقى الضغط تلو الضغط من لدن القصر منذ سنتين بالتمام والكمال. فقد نشر الديوان الملكي في نهاية صيف سنة 2016بلاغا شديد اللهجة ينتقد فيه الأمين العام للحزب ويتهمه بالهرولة وراء مصالح انتخابية (كانت التشريعية على الأبواب) وذلك عقب تصريح كان قد نُشر منذ أسابيع طويلة في أسبوعية الأيام، انتقد فيه بنعبد الله المستشارَ الملكي فؤاد عالي الهمة دون أن يذكره بالإسم. رافقت هذا البلاغ والضجة الذي أثارها حملة تشهيرية خطيرة من طرف صحف السلطة ضد الأمين العام للتقدم والاشتراكية وبضعة أفراد من عائلته الصغيرة.

كيف أصبح، بقدرة قادر، هذا الحزب مستهدفا من أعلى سلطة في البلاد؟ وهو الذي ومنذ إعادة تأسيسه تحت اسمه الحالي سنة 1974، لم يواجه أبدا القصر كما كان يفعل أحيانا حلفاؤه في الاتحاد الاشتراكي وحتى أحيانا أخرى في حزب الاستقلال المعتدل؟ ما السبب في هذا الغضب الشديد والمستدام عليه؟

يبدو ان هناك سببين رئيسيين: أولهما تغير موقف التقدم والاشتراكية من الإسلام السياسي المعتدل عموما ومن حزب والعدالة والتنمية على وجه الخصوص. فالنظام يعتبر منذ حوالي عشرين سنة ان الخطر السياسي المحدق به يتشكل أساسا من الإسلام السياسي أي العدالة والتنمية (خطر انتخابي) والعدل والإحسان (خطر ايديولوجي) والسلفيات الجهادية (خطر أمني).

استفاد التقدم والاشتراكية من دروس ما سمي بالربيع العربي فأصبح يؤمن بأن تحالفا علمانيا إسلاميا يمكن أن يبني أساسا صحيحا للتقدم على طريق الديمقراطية وفي مواجهة النخب المحافظة المتحكمة في النظام بالمغرب. هكذا وضع بنعبدالله يده في يد عبد الإله بنكيران منذ سنة 2011 كما سانده في أغلب «معاركه» مع القصر بما في ذلك حول اقتسام السلطة بين رئيسي الحكومة والدولة.

أما السبب الثاني وهو مرتبط بالأول فهو اتجاه الأمين العام نحو استقلالية أكبر تجاه التعليمات والإشارات الآتية من فوق. فها هو ينأى بنفسه عن الحضور في اجتماع الاغلبية الذي ترأسه وزير الداخلية السنة الفارطة، الاجتماع الذي اتهم رسميا قياديي حراك الريف بالانفصاليين معلنا ضمنيا أن آلة القمع ستتحرك ضدهم وكذالك كان. فضل بنعبد الله أن يمثل الحزب في هذا الاجتماع الغريب الذي حضره رئيس الحكومة دون أن يترأسه، أقول فضل أن يمثل التقدم والاشتراكية الاستاذ خالد الناصري أي رجل القصر داخل الحزب.

هذه الاستقلالية الجديدة تجسدت كذلك في خطاب بنعبدالله حول ضرورة تفعيل الانتقال الديمقراطي حتى يصبح واقعا محسوسا وفي انتقاده ولو باحتشام لخروقات حقوق الإنسان من طرف السلطة والقضاء وهكذا عبر عن عدم رضى الخزب عن الأحكام القاسية التي صدرت منذ شهرين ضد شباب الحراك.

اليوم وقد وصل الضغط أشده على هذا الحزب وعلى رئاسة الحكومة لفك الارتباط به، ومن مظاهر هذا الضغط أن كان التقدم و الاشتراكية الضحية الأولى لـ«الزلزال» السياسي و إعفاءته حيث مست ثلاثة من وزرائه، يمكن ان نتساءل هل سيصمد التقدم والاشتراكية والبيجيدي في وجه العاصفة ويتابعان معا عملهما الحكومي وتنسيقهما السياسي أم أن رفاق بنعبدالله سيفعلون به ما فعل إخوان بنكيران بزعيمهم فإما يغادرون الحكومة او يغادر هو قيادة الحزب.

المقال نشر في القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى