رأي/ كرونيك

جماليات المناظرة وخواؤها

عدلي صادق كاتب وسياسي فلسطيني

تابعت مساء الجمعة، المناظرة بين الرجلين اللذين يتنافسان على الرئاسة في تونس، وقد أريد لها أن تحاكي في ملمحها العام، المناظرات بين مرشحين اثنين للرئاسة في أميركا، بل التفوق عليها في القواعد الشكلية، من حيث تصميم الاستديو ودقة الإضاءة سطوعا وخفوتا، واختيار الألوان. وفي السياق، لم يكن هناك اشتباك مباشر بين الرجلين المتناظريْن. فكل منهما يجيب عن السؤال نفسه، الذي يتلقاه الآخر من منصة الإدارة. وبدا الفارق لافتا بين الرجلين، فذكّرني حدث التناظر في تونس، بالمواجهة ومناظرة لعبة الكلام التي وقعت في القرن العاشر، بين بديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات، والخوارزمي المشتبه بكونه عالم الرياضيات، بينما هو محض اسم على اسم. فكلا الرجلين كانا يتعاطيان الشعر. الأول ذو دهاء لُغوي، يلاعب المفردات ويجيد ترقيصها، أما الثاني فهو كاتب رسائل رصينة وحافظ نصوص. يومها بدأ بديع الزمان قائلا لمنافسه متمثلا الأدب الجَمّ: يسعدنا أن نسمع منك، شيخنا، ما تحفظه من شوارد الأبيات، وحِكَم الأمثال، وعجائب القصص والأخبار، فتسألني وأسألك، وتباحثني وأباحثك، فتعمّ الفائدة علينا جميعا، وإن شئت بدأنا بأكثر شيء برعتَ فيه شيخنا، وهو الحِفظ!

غير أن مناظرة تونس، جرت بين طليق في الفصحى وماكث في العامية. الأول يطرب للغته المستريحون ذوو الرغبة في توسيع نطاق الهوية العربية الإسلامية، بينما الثاني، في شكل ظهوره، يلامس شغاف قلوب الفقراء التونسيين المتعبين، بكلام ميسور بارع. لكن الرجلين لم يقدّما أيّ رؤية بمحدداتٍ وعناوين تتعلق بالأمر الذي عليه يتنافسان، واكتفى كلٌ منهما بدفع المظان عن نفسه، مراوحا في مربع الحب البديهي للبلاد وأهلها. ربما تكون إدارة الحوار، هي التي أخذتهما إلى ذلك المنحى بأسئلتها الفاحصة للمظان. وغابت أسئلة الحياة التونسية المرتجاة، فحضرت أسئلة المزالق، لاختبار صدقية كُلٍّ من الرجلين، بينما التونسيون يهجسون بشيء آخر، وهو مستقبل البلاد وحياتهم فيها. فقد تشكلت الأحزاب وانعكست في أسمائها هواجس العيش الكريم، ليقتنص معظمها اسما يعبر عن غرام ودلال لتونس الباهية: نداء تونس، من أجل تونس، شباب تونس الغد، الوفاء لتونس، تونس الكرامة، تونس المستقبل، تونس الحديثة، آفاق تونس، تونس الجديدة، مشروع تونس. وحيال هكذا تظاهرات، لم يتبق لآخرين سوى التسمية بصيغة الهتاف: تحيا تونس!

وبالنظر إلى أن تونس الرائقة والمكتفية والحاضنة للسعداء والسعادة، هي المرتجى وقطب الرحى الذي لا يبرح مكانه؛ بمقدورنا القول، إن مناظرة بديع الزمان والخوارزمي، في القرن العاشر، أفادت تونس وغيرها، أكثر من مناظرة قيس ونبيل. ربما لم يكن المقام يسمح بالإفادة في هذه اللُجة، لكن التنويه إلى الخواء لا تكتمه جماليات المناظرة.

المصدر: صحيفة العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى