أمهات القليعة: أبناؤنا لم يكونوا مشاغبين..كانوا فقط أحياء+فيديو
11/11/2025
0
تحرير: جيهان مشكور
في بلادٍ اعتادت أن تُخفي نزيفها خلف البلاغات الرسمية، خرجت ثلاث رصاصات لتعلن سقوط القناع… ثلاث أرواحٍ شابة في القليعة بإقليم إنزكان انتهت حياتها لأن أحدهم قرر أن الحفاظ على«النظام» العام، أهم من الإنسان، وأن صوت الغضب يجب أن يُسكت بالرصاص لا بالإصغاء.
لم يكونوا مخربين ولا مشاغبين بل ضحايا رصاصٍ طائش وقراراتٍ عمياءلم يقف الآباء والأمهات صباح اليوم أمام رئاسة النيابة العامة بالرباط غضبًا فقط، بل وجعًا يشبه الوقوف على بوابة الغياب. حملوا صور أبنائهم كما يحمل القلب ذاكرته، ورفعوها في وجه الصمت، يطلبون الحقيقة لا العزاء، والعدالة لا البيانات التي تُكتب بمداد النسيان.
قالوا إن أبناءهم لم يكونوا مخربين ولا مشاغبين، بل أحلامًا صغيرة أُطفئت برصاصٍ طائش وقراراتٍ عمياء. بعضهم سقط برصاصةٍ في الظهر، كأن العدالة نفسها كانت توليهم ظهرها. هناك، على بعد خطواتٍ من البرلمان، كان الوجع يصرخ: ما جرى لم يكن صدفة، بل مرآة وطنٍ يتأخر كثيرًا في الإصغاء إلى دموعه.
لقد جعلت تلك العائلات من باب النيابة العامة محكمةً رمزية لمحاكمة ضمير دولةٍ تُدفن فيها العدالة في أدراج البلاغات..و تتحول فيها المسؤلية لشعار خاو من المضمون.
جيل “زد”.. حين يتحول الغضب إلى جريمة والشباب إلى هدف
بدأت الوقائع التي تحولت إلى فصولٍ من الاحتجاجات “بمطالب اجتماعية” ثم تصاعدت إلى “مواجهات ليلية” ، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى في صفوف المتظاهرين وعناصر الأمن، إضافة إلى خسائر مادية واسعة.. و بينما تصف النيابة العامة هذه الحوادث بأنها أعمال عنف وتخريب وفتحت بحثًا قضائيًا لتحديد المتورطين، يرفض ذوو الضحايا أي قراءة تجيز العنف دون أن تسبقها إجابات عن سؤال أساسي: لماذا انتهى احتجاج شبابي بطلقات قاتلة؟
المشهد القليعي يفتح بابين متوازيين: باب المساءلة عن استخدام القوة المفرطة، وباب التساؤل عن الأسباب الاجتماعية التي جعلت الغضب الشعبي ينفلت من السلمية إلى المواجهة..
وجوه الضحايا.. ليست أرقاما
الصورة الإنسانية هنا ليست رقمية؛ إنها وجوه وأسماء وذاكرة أسرية انهارت في لحظة.. لم يكن الضحايا مجرد أرقام تُضاف إلى أرشيف العنف الأمني، لقد كانوا أبناء الفقر، أبناء هذا الوطن الذي يزرع الوعود ويحصد الخيبات..، هؤلاء الشباب لم يكونوا قطاع طرق، ولا متمردين على الوطن، بل لم يكونو حتى جزء من احتجاجات الجيل زد، فحسب رواية شهود عيان فإن أحدهم طالب حاصل على دبلوم في الدراسات السينمائية، وهومصور يُوثق الأحداث، والثاني كان قادم من العمل ليجد نفسه وسط تلك الأحداث”.
و اليوم لم تطلب عائلاتهم أكثر من معرفة كيف ومتى ومن أطلق النار، ولماذا لم تُحفظ حياة هؤلاء الشبان؟ التساؤل يلامس ضمائر مؤسساتٍ يفترض أن تكون حارسةً للأمن ومُحافظةً على حياة المواطنين، فعندما يذكر البعض أن أحد الضحايا أصيب من الخلف وبمسافة بعيدة عن نقطة المواجهة، فإن ذلك لا يندرج في إطار صدفة عابرة، بل يستدعي فتح تحقيق جنائي دقيق يركز على مسارات إطلاق النار وأطوال الأعيرة ومسافة الاطلاق والمسؤولية القيادية لمن تحمل قرار استعمال القوة.
وفي هذا السياق، أوضح الناشط الحقوقي محمد أربيب “أن لعائلات” لم تلجأ للاحتجاج بالرباط إلا بعد أن أُغلقت أمامها جميع الأبواب على الصعيد المحلي بأكادير، حيث لم تظهر نتائج التشريح الطبي، ولا تم الاستماع للأسر أو الشهود على الواقعة، أي غياب أي مؤشرات تُفيد بوجود إرادة حقيقية في البحث عن الحقيقة”.
وأضاف أربيب أن “فتح التحقيق في مثل هذه القضايا يجب أن يتم من طرف الفرقة الوطنية وليس سرية الدرك الملكي التي تُعتبر طرفًا في الواقعة،
تحقيقٌ على الورق.. وعدالة تُمارَس بالتقسيط
استقبلت رئاسة النيابة العامة العائلات..حدث قد يبدو في الظاهر علامة اهتمام، لكنه في العمق جزءٌ من لعبةٍ طويلة تُتقنها السلطة: امتصاص الغضب لا مواجهته.
فالعدالة الحقيقية لا تقاس بعدد اللقاءات، بل بقدرتها على قول الحقيقة مهما كانت موجعة.. فهل تم تأمين مسرح الجريمة؟ هل أُخضعت الأسلحة للفحص البالستي؟ هل شارك خبراء مستقلون في الطب الشرعي؟ أم أن القضية ستُغلق كما أُغلقت مئات الملفات قبلها تحت شعار “التحقيق مستمر”؟
إنها معادلة مؤلمة: كلما سقط شاب، ارتفع صمت الدولة.
من أين تنطلق رغبة الشارع في كشف الحقيقة؟
من القليعة خرج الدخان، لكن جذوره تمتد في عمق واقعٍ اجتماعي خانق.. جيلٌ كامل وُلد في زمن الوعود المكسورة، يعيش في وطنٍ يقول له “اصبر” بينما يراه يموت ببطء: بطالة تجاوزت ثلث الشباب، و تعليم لا يفتح الأبواب بل يضاعف الإحباط، وأسعار تدهس ما تبقّى من الأمل، اما المستشفيات فهي وقفة في طابور الموت..
و حين يحْتجُّ هؤلاء، تراهم الدولة تهديداً، لا أبناءً غاضبين. وهكذا يتحول الاحتجاج إلى “شغب”، والرصاص إلى “إجراء أمني”، والموت إلى “حادث عرضي”. لكن لا شيء عرضي في موتٍ كهذا؛ إنه نتيجة منطق سياسي يرى في المواطن رقماً، وفي الغضب جريمة، وفي السؤال خطراً.
مطالبة العائلات بالحقيقة ليست مجرد قضية جنائية ضيقة، بل استدعاء لإعادة النظر في طرق التعاطي مع احتجاجات مدنية خاصة عندما تكون فئات واسعة من الشباب تعبّر عن استياء عميق.
خطر السرد الرسمي الوحيد وضرورة الشفافية
يكمن الخطر الأكبر أن يُترك السرد الرسمي وحيداً دون دليلٍ مقنع، فيُغلق الملف كما أُغلقت المئات من قبله.. حينها يملأ الشارع فراغ الصمت بالشائعات، ويتحوّل الغموض إلى احتقان.
فحين تسكت الدولة، يتكلم الشارع، وحين يُغلق الإعلام الرسمي عينيه، تفتح وسائل التواصل نوافذها على الحقيقة أو الاشاعة و التصخيم.. اليوم لم يعد بالإمكان احتكار الرواية، فالشفافية لم تعد خياراً، بل ضرورة وطنية، لأن غيابها يعني شيئاً واحداً: أن الدولة تضع نفسها في مواجهة شعبها.
لذلك فالمطلوب هو عرض حقائق ملموسة أمام الرأي العام، مع الحفاظ على سرية ما يتطلبها التحقيق، وتوفير عناصر تطمئن العائلات والمجتمع بأن المسار القضائي يسير في اتجاه العدالة، إضافة الى حماية الشهود مع الضمانات القانونية للمتضررين كجزء لا يتجزأ من هذا الشفافية.
صمود الأمهات.. ذاكرة الوطن التي لا تموت
في كل مرة تقف أمٌ أمام النيابة العامة، تحمل صورة ابنها وتصرخ في وجه المجهول، تكون العدالة قد فشلت في أداء واجبها، ومع ذلك، فصمود هذه العائلات هو آخر ما تبقّى من كرامة الوطن.
هؤلاء النساء لسن ناشطات حقوقيات ولا سياسيات، لكنهن أكثر صدقاً من كل البلاغات الرسمية، إنهنّ يحمين ذاكرة البلد من التحريف، ويذكّرن الجميع أن الدم لا يسقط بالتقادم.